غالبا لا تدرك العين التغيير البطيء - معتمر أمين - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غالبا لا تدرك العين التغيير البطيء

نشر فى : الخميس 23 يونيو 2022 - 7:50 م | آخر تحديث : الخميس 23 يونيو 2022 - 7:50 م
كلما استطاع التحليل السياسى إظهار عناصر مؤثرة فى مسرح الأحداث ولكنها غير مرصودة كلما ارتفعت قيمة التحليل. من هنا ننبه لعنصر التغيير البطىء وتأثيره فى الأحداث. فكلما كان التغيير بطيئا كلما فات أمام أعين الناس بدون انتباه أو أحيانا إدراك. ثم يفاجئنا بعدما أصبح أمرا واقعا بتغير الحال وبحقائق تغير العالم الذى نعرفه. فمثلا من كان يتصور أن ديزنى لاند رائدة صناعة أفلام الكارتون فى العالم، التى يشاهدها عشرات الملايين من أطفال العالم ستصبح منصة ترويج لقبول الشذوذ الجنسى! ولكن قبل أن نفكر فى كيفية مواجهة هذا الانحراف، يجب أن نسأل كيف وصل بنا الحال إلى هذه النقطة، وهذا بالضبط المقصود بعنصر التغيير البطىء الذى يجرى على مهل، بينما نظن أنه ثابت، فإذا بالكتلة الأرضية التى نقف عليها تتحرك بلا حول منا ولا قوة. ولذلك من الجيد دائما البحث عن أصل الموضوع ومساره قبل أن ننجرف فى معنى اللحظة الراهنة. ولنتذكر إذا داهمتنا الأحداث أن الحلول المؤقتة والسريعة ليست إلا محطة فى مسار التغيير البطىء.
• • •
واقع الشرق الأوسط أو قدره أنه يقع فى منطقة جغرافية تتوسط العالم. ويعتبر المسار الأساسى بين الشرق والغرب، وأحيانا بين الشمال والجنوب. ولذلك دارت عبر الزمن مشروعات سياسية واقتصادية وتجارية للربط بين الشرق والغرب، مر أغلبها من الشرق الأوسط، باستثناء طريق رأس الرجاء الصالح الذى عمل الغرب لاكتشافه على مدار عشرات السنين، ولما اكتشفه تغير كل شىء. والآن تقوم الصين بمشروع عملاق من هذا النوع وهو مشروع طريق الحرير الجديد. وعندما يكتمل المشروع سنرى نوعية التغير الذى سيحدثه فى العالم. ولكن تتحسب بعض الدول التى تعى دروس التاريخ جيدا لهذا المشروع وأثره عليها، وتبادر بعمل مشروعات موازية لكى لا تتهمش منطقتها وتصبح مجرد معبر بين الشرق والغرب. والحديث هنا ليس فقط عن الولايات المتحدة التى ترى خطرا فى المشروع الصينى، ولكن عن دولة بولندا التى عانت فى تاريخها الحديث من مغبة الوقوع فى المنتصف بين قوتين عظميين. فآخر مرة جرى ذلك كان فى أربعينيات القرن الماضى، وتم تقسيم بولندا بين ألمانيا النازية والدولة السوفيتية. والآن، استفادت بولندا من منتج بحثى قدمه المجلس الأطلسى عام 2014، بعمل مبادرة البحار الثلاثة. وهى مبادرة لعمل محور تنمية يربط بين البحر الأبيض، والبحر الأسود، وبحر البلطيق. ويعمل المحور لخلق سوق بين 12 دولة بشرق أوروبا لكى تصبح مركزا للثقل الاقتصادى وليست مجرد معبر. وتشاركت كرواتيا مع بولندا فى العمل لتحقيق هذا التنظيم الإقليمى، ونجحوا فى إنشاء المنظمة وجهازها المؤسسى، وعقد قمم دورية. كان آخرها يوم 20 يونيو الماضى فى ريجا عاصمة دولة لاتفيا. وفى تلك القمة التى حضرها بجانب الدول الأعضاء، ممثلون عن الولايات المتحدة وألمانيا، دارت نقاشات عن مواجهة العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، التى أوقفت المسار من بحر البلطيق إلى البحر الأسود عبر أوكرانيا، التى باتت مهددة بأن تكون دولة حبيسة بلا شواطئ.
ولننتقل للشرق الأوسط، ونراقب المسارات البطيئة التى تمر به، أو مشروع الحرير الجديد. واقع الأمر أنه ليس بمشروع جديد، ولكنه قديم ومتكرر عبر الزمان. ولنستحضر محاولة جرت من قبلها للربط البرى بين الشرق والغرب، والتى ما زالت موجودة لكنها لا تعمل. هل تعلم عزيزى القارئ / عزيزتى القارئة أن مشروع سكة حديد برلين ــ بغداد الذى بدأ عام 1898 وتم الانتهاء منه عام 1913 ما زال موجدا إلى الآن. لقد كتبت قصصا رومانسية حول القطار ومساره، من أشهرها قصة الكاتبة أجاثا كريستى «قطار الشرق السريع». وقصة القطار باختصار أنه امتياز منحته الدولة العثمانية لألمانيا، لمد خط سكة حديد يربط بين إسطنبول والموصل. ثم توسع الخط ليصل إلى بغداد فالبصرة. ولقد فجر المشروع تنافسا جيوسياسيا بين الدول الكبرى التى خشيت من تأثيره. فلقد خشيت بريطانيا على مستعمراتها فى الهند، وشبهت الخط بأنه مدفع ألمانى مصوب من الخليج تجاه مستعمراتها. كما خشيت بريطانيا وفرنسا من أثره على قناة السويس. وخشيت روسيا القيصرية من مد فرع للخط يصل لأرمينيا وأذربيجان مما يعزز دفاعات الدولة العثمانية فى القوقاز ويحدث تغير فى توازن القوى! كل هذا من خط سكة حديد! ولقد توقف العمل بالخط عام 1913 طيلة الحرب العالمية الأولى قبل أن يبلغ الموصل بمسافة قصيرة. وبعد سيطرة بريطانيا على العراق، تم استكمال الخط. ثم توقف ثانية عام 1940 فى الحرب العالمية الثانية. وجرت محاولات ناجحة لإعادة تشغيله عام 2010، لكنها توقفت، ثم تجدد الحديث عنها عام 2021. وفى نفس السياق، أنشأت الدولة العثمانية مشروع قطار آخر عام 1903 من دمشق للمدينة المنورة أطلق عليه سكة حديد الحجاز، ودخل الخدمة عام 1908. كان الشغل الشاغل للقوات البريطانية التى تقدمت لاحتلال فلسطين عام 1917، ولذلك وجهت إليه ضربات عن طريق لورانس العرب وقواته من العصابات العربية، لأن الخط قادر على نقل حركة الجيوش سريعا مما يعتبر مخاطرة موجهة ضد الجيش البريطانى. ومنذ تدمير الخط ووقوع فلسطين تحت الاحتلال لم تعد أى محاولة لإحيائه مرة أخرى.
• • •
الآن عام 2022، لا جديد فى الشرق الأوسط. بل نفس المشاريع القديمة تتجدد. فالشرق والغرب يطلقون المشاريع للربط بينهما عبر المنطقة، التى حتى لو نسينا موقعها الجغرافى فإن العالم لا يستطيع أن ينسى. وحتى بعد العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، فإن أهمية الشرق الأوسط للجانبين لا غنى عنها. فالشرق الأوسط طريق روسيا للأسواق. وهو طريق الصين البرى الذى تراهن عليه. ولكن مهلا، لا يعنى هذا أن بلداننا مهمة، وإنما موقعها الجغرافى هو الأمر المهم. أما من جانبنا، فبعضنا مع أمريكا ويريد الخلاص منها، وبعضنا يراهن على الصين لعلها تدخل علينا بشروط أفضل، وبعضنا يمسك العصى من المنتصف لنرى ماذا سيحدث ثم لكل مقام مقال. الشىء المدهش وسط هذه الاتجاهات، أننا لا نكاد نرى مشروعا من المنطقة لتقويتها ذاتيا، والنهوض بها داخليا، وفرض مصالحها، بل نسير فى مسار بطىء يفقد الهوية، ويغير نظرتنا لأنفسنا، حتى بتنا نتكلم ليس عن حرية الإنسان ولكن كيفية التصدى للمثلية!
معتمر أمين باحث في مجال السياسة والعلاقات الدولية
التعليقات