فى وداع أحمد مرسى.. الفولكلورى الأصيل (1) - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى وداع أحمد مرسى.. الفولكلورى الأصيل (1)

نشر فى : السبت 23 يوليه 2022 - 9:30 م | آخر تحديث : السبت 23 يوليه 2022 - 9:30 م

... كان من المفترض أن أستكمل ما خططتُ له من كتابةٍ عن النص التأسيسى المدهش فى تاريخ الرواية العربية الحديثة، «حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحى، وأستعرض بعض آراء النقاد عنه.. لكن الرحيل المفجع للأستاذ الدكتور أحمد على مرسى (1944ــ2022)، أستاذ أساتذة الفولكلور والأدب الشعبى، والخبير الدولى فى التراث الثقافى اللا مادى وصونه، فرض حضوره الحزين، ومن ذا الذى يتغافل عن قيمة ومكانة الأستاذ الكبير والجليل الذى أصبح علما على رأس مدرسة مصرية وعربية فى الجمع الميدانى للنصوص الشفاهية، والمأثور الشعبى، منذ ستينيات القرن الماضى وحتى وقتنا هذا.

ــ 1 ــ
«السيرة أطول من العمر».. هذا هو الدرس الأول الذى تلقيته حينما خطت قدماى ذات صباح فى سبتمبر من العام 1997 مدرج (78) التاريخى بكلية الآداب بجامعة القاهرة. المحاضرة الأولى، والأستاذ الأول والدرس الأول، فى مادة الأدب الشعبى، التى يقوم بتدريسها د. أحمد مرسى.
حضوره وافر، أناقته لافتة، ونبرات المؤدى الشعبى تتجلى فى استدعاءاته النصية، وخصوصا الأمثال الشعبية، التى كان يحبها ويحفظها عن ظهر قلب، ويرددها على أسماعنا بين حين وآخر. كان متدفقا فى حديثه، وبأدائه المميز فى المحاضرة، والحرص على الضغط على أصوات معينة فى نطقه، ليترك أثرا عميقا فى نفوس مستمعيه (كأنه يستدعى أو يستلهم روح الراوى الشعبى القديم الذى يواجه مستمعيه مباشرة، ويكون حريصًا على جذبهم إليه طيلة الساعات التى يقدم فيها حكيه وإنشاده).
ليس هناك من اتصل بالدرس الفولكلورى المعاصر أو الأدب الشعبى ونصوصه الرائعة (المدون منها والشفاهى) لم يسمع بالدكتور أحمد على مرسى أستاذ الأدب الشعبى بجامعة القاهرة، وأحد أنبغ تلاميذ الرائد الراحل الكبير عبدالحميد يونس، وكان أصغر من حصل على درجة الدكتوراه فى الأدب الشعبى، ولم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره.
بالتأكيد كان الدكتور أحمد مرسى أحد نجوم كلية الآداب المشهورين؛ كان ملء السمع والبصر بنشاطه فى التدريس والمحاضرة والتأليف والترجمة، ونشاطه الثقافى العام خارج الجامعة، ثم تضاعفت هذه النجومية، وهذا التألق، مع انتشار دراسات الفولكلور والأدب الشعبى فى جميع أنحاء العالم العربى، منذ سبعينيات القرن الماضى وحتى وقتنا هذا.

ــ 2 ــ
لم يكتب أحمد مرسى حرفا لم أقرأه؛ كتبه ومقالاته، بحوثه ودراساته، ترجماته.. وفى كل ما قرأت له، كان صاحب أسلوب مميز فى الكتابة العلمية المنهجية عن «المأثور الشعبى»؛ كتابة واضحة رائقة تخلو تماما من التعقيد والغموض والتعنت الأسلوبى، ويقدم مادته العلمية فى أحسن صورة من جمال العرض ودقة التحليل والسلاسة اللغوية، والبساطة أيضًا؛ فضلا على ذخيرته النصية (من المحفوظ والمأثور والمدون).
كان يمتلك أسلوبًا يعتمد التشويق والإمتاع، فضلًا على ذكاء وحلاوة اختيارات موضوعات بحوثه ودراساته ومقالاته التى لم تكن تخلو أبدًا من الجدة والطرافة والأهمية أيضًا (على سبيل المثال، كتب عن: العدودة أو البكائيات فى التراث المصرى، وكتب عن الخير والشر فى ألف ليلة وليلة، عن الأغنية الشعبية، والأمثال... إلخ).
لم أشرع فى قراءة نص لأحمد مرسى (كتابا كان أو مقالة أو دراسة أو ترجمة) إلا وأتممته لنهايته، يعرف كيف يختار المثير والشائق والجاذب للقراءة فى العموم، يتجنب النتوءات والحواف الحادة القاطعة فى اختيارات موضوعاته أو كتابتها على السواء (على العكس من أجيال تالية، لم تمتلك هذه الفضيلة للأسف، فجاءت كتابتها «ثقيلة»، «جافة»، وموضوعاتها مملة، وحرفية التطبيق لا إبداع فيها ولا لمسة جمال أو ذوق أو حس ذاتى، ولا تكاد تعثر على سمة أسلوبية واحدة يمكن أن تميز صاحبها).

ــ 3 ــ
تخرج الدكتور أحمد مرسى فى العام 1963 (وكان عمره آنذاك تسعة عشر عاما فقط)، فاختاره أستاذه الرائد الفولكلورى الكبير عبدالحميد يونس ليكون معيدا بقسم اللغة العربية وآدابها، ويتخصص فى الأدب الشعبى، ليستهل مرحلة جديدة تمامًا فى تاريخ الدراسات الشعبية، مرحلة سيكون فيها أحمد مرسى رائدا ومؤسسا حقيقيا لمدرسة مصرية أكاديمية أصيلة فى البحث الفولكلوري؛ وهى مدرسة الجمع الميدانى، وتوثيق المصادر والرواة، والالتفات إلى النصوص الشفاهية بكل أشكالها «الأغنية الشعبية، الموال، الحدوتة، الحكاية، العدودة.. إلخ».
فى المرحلة التى سبقت الدكتور أحمد مرسى، كان الرعيل الأول أو جيل الآباء الرواد من مؤسسى الدراسات الشعبية، والبحث الفولكلورى، يركزون على التراث الشعبى المدون، وبالأخص النصوص الكبرى (ألف ليلة وليلة وقصص الحيوان فى كليلة ودمنة، والسير الشعبية المدونة.. إلخ)، وذلك منذ رسالة سهير القلماوى الرائدة عن «ألف ليلة وليلة»، ومرورا برسالتى عبدالحميد يونس عن «سيرة الظاهر بيبرس» فى الماجستير، وعن «الهلالية فى التاريخ والأدب» فى الدكتوراه، وبالتزامن مع جهود كل من محمد كامل حسين، وعبداللطيف حمزة، وعبدالعزيز الأهوانى، وفؤاد حسنين على.. ومن خارج الجامعة مع جهود فاروق خورشيد، وزكريا الحجاوى، وأحمد عباس صالح، ومحمد فهمى عبداللطيف.. هؤلاء يمكن اعتبارهم الآباء المؤسسين لدراسة الأدب الشعبى فى مصر، والمأثورات الشعبية العربية بصفة عامة.
ــ 4 ــ
سيأتى أحمد مرسى ليكون على رأس الرعيل الثانى أو الجيل الثانى المتخصص فى الدراسات الشعبية، مستهلا طريقا بكرا يخوض مباشرة معاناة جمع ودراسة الأدب الشعبى المرتبط بحياة الناس فى القرى والنجوع والمراكز. جاء أحمد مرسى ليقتحم حياة الناس الإبداعية، ويطور الدراسة الأكاديمية فى ميدان الأدب الشعبى، ويتقدم بها خطوات إلى الأمام، فينجز أطروحتيه التأسيسيتين «الأغنية الشعبية فى منطقة البرلس» (ماجستير سنة 1966)، و«المأثورات الأدبية الشعبية فى الفيوم» (دكتوراه 1969).
كانت هاتان الدراستان ولأول مرة، محددتين بمكان بعينه، ويكون قوامهما الأساسى الجمع الميدانى، ولقاء بسطاء الناس والفلاحين ليكونوا هم مصادره الأساسية (الرواة) وتكون النصوص الشفاهية المأخوذة منهم هى المادة التى ستكون خاضعة للتحليل.. (وللحديث بقية)