أحلام زكية - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحلام زكية

نشر فى : الجمعة 23 نوفمبر 2018 - 11:55 م | آخر تحديث : الجمعة 23 نوفمبر 2018 - 11:55 م

كان الليلُ وشيكًا، والأفق عريضًا، وبقايا الضوء تنسحب إلى مَكامِنها في هدوء، والخَلقُ آيبون في لهفةٍ إلى مَساكنهم، مُتطلّعون في صدقٍ إلى إراحةِ أطرافِهم ومَفاصلهم، آملون في وجبةٍ تدفئ البطونَ وصحبةٍ تسرُّ النفوس.
***
أخرجت مِن الثلاجة سمكاتٍ ثلاث؛ ذاب ثلجُها، ولان لحمُها وطاب بالدرجة المُناسبة. وضعتها تحت الصنبور في إناءٍ عَميق، يغطيها الدقيق، ثم اتجهت إلى ركنِ المَطبخ؛ فانتقت حباتِ البطاطس الضخمة مِن الشبكة العامرة، وراحت تزيل قشرتها البنية اللامعة؛ في شغفٍ وسعادة.
لم تنس الطماطمَ وحلقاتِ البَصل المتألقة، ولا فاتتها البهاراتُ على اختلاف حِدَّتها وأنواعها، وقد وزَّعت شرائحَ الليمون بكرمٍ، وأضافت أعوادَ الكرفسِ الطازجة. اكتملت الآية بفصوص الثومِ التي فاح في الجو عبقُها، وبذا؛ غدت الصينيةُ الكبيرة جاهزةً، تنتظر دخولَ الفرن.
دقائق وينتهي إعداد الأرز، وليس عليها إلا أن تنادي؛ فيهرع أفراد العائلة لتحضير المائدة، وإمدادها بالمُشهيات الواجبة. قطع الباذنجان المخلل وأطباق الطرشي وسلاطة الطحينة؛ تلك التي لا تصِح أكلةُ السمكِ في غيابها.

***
تأكدت زكيةُ مع تصاعد الرائحةِ الزكيةِ، أن الصينيةَ المُستديرة التي شارفت على النضج مُحتوياتُها، لهي مِن أعظم ما طهت في حياتها. علا نداؤها فخرًا وتباهيًا؛ فانتظمت الأطباقُ على الفور، وتراصت الملاعقُ في سرعة البرق، وأخيرًا انتقلت الصينيةُ مِن المَطبخ لتحتل مَوقِعها في المَركز والقلب. تحلَّق الجميع حولَها، فيما مدَّت زكيةُ يدها؛ توزع كعادتها الأنصبةَ، وما إن اطمأنت للقِسمة العادلة، وهَمَّت بوضع الملعقةِ الأولى في فمها، حتى استيقظت مِن النوم.
***
تلفتت حولها، وفركت أصابعها وتحسست فراشها، فتأكدت من وضعها؛ لا ملاعق ولا صينية ولا أطباق. أدركت في حسرةٍ أن الأكلةَ التي أسالت لعابَها؛ لأثمن مِن أن تكون حقيقة، وأروع مِن أن تجد الطريق إلى بطنها وبطون عائلتها.
***
اعتدلت في رقدتها مع تلاشي بقايا النوم، واندفعت الأفكار إلى رأسِها. كانت الرائحةُ النفاذة في أنفها لا تزال؛ تُهيج مشاعرها، وتحرك المَصارين الجائعة. تحتاج بطبيعة الحال لما يتعدى الخيال، وما يجسد روائح المنامات وصورها؛ فيجعلها قابلة للمسّ والمَضغِ والبَلع، أما مسألة الهضم فقد أبعدتها تمامًا عن ذهنها؛ إذ ليس في الاستطاعة استيفاء التعليمات الصحية، واتباع النصائح الطبية، والتزام الإرشادات الصارمة التي تنقلها البرامج التلفزيونية؛ تلك التي تنفث تعاليمها ليل نهار، لا تأخذها بالناس شفقة ولا يردعها جموح الأسعار.
***
الساعةُ مُبكرة، الفجر يشقُّ النافذة، وصوتُ المُؤذن يعلو في أذنها. استجابت للنداء واستعاذت مِن شرور ما وسوس لها، ومما تهيأ في صدرها مِن إغواء واستوى، وما تزيَّن لعقلها مِن خطايا وآثام؛ لا تجرؤ في الصحو على ارتكابها. الوجبةُ التي زارت أحلامَها، صارت في حكم المَكروهات، وغدًا تنتقل إلى بندِ المُحرمات؛ فالميزانية لا تطيق ولو نتفة مِن مُكوناتِها، تضاعف ثمنُ الأسماكِ رغم ما شاع عن افتتاح مزارع وخطوط إنتاج، ولبست البطاطس ثوب الفُحش والفجور بلا وازع ولا حياء؛ ولم يكن ارتياد الطابور الطويل الذي سمعت بوجود منفذ للبيع في نهايته، أمرًا هينًا. ليس العراك وتلاحم الأكتاف واللكز بالأكواع مما تجيد؛ وإذا استعصى عليها الحصول على هذان؛ فبما تصنع الأكلة؟
***
مَغلوبة على أمرها؛ شدَّت زكيةُ مِن الفراش جسدها. لم يعد أمامها سوى مَسارين لا ثالث لهما؛ أكياس المُجمَّدات المتوفرة هنا وهناك، المعبأة مِن حيث لا تدري ولا تأمن؛ بشرائح الأسماك، ثم سوق الأطعمة المُستعملة؛ التي غدت مُكتظة بزبائنها، مزدحمة بروادها. ارتدت ملابسها، واتجهت إلى الباب، وقفت دقيقة تحسب اتجاهها، وأخيرًا حسمت الأمر، وخرجت تقصد سوق الطعام المأكول سلفًا؛ حيث يمكنها ابتياع الذيل والرأس فرادى، وبعض الحبات التي تجاوزت مرحلة النضج، والثمرات نصف الفاسدة، وحيث بقايا أحلامها ترقد وسط الأقدام؛ منزوعة الطعم والرائحة. أحلام زكية.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات