تراثنا وفكرة الترشيح التوافقى (١ ــ ٢) - جمال قطب - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تراثنا وفكرة الترشيح التوافقى (١ ــ ٢)

نشر فى : الجمعة 24 فبراير 2012 - 8:55 ص | آخر تحديث : الجمعة 24 فبراير 2012 - 8:55 ص

(1)

فكرة المرشح التوافقى ــ بغض النظر عن الأشخاص ــ تذكرنى بفكرة فقهية تراثية أهملها المسلمون خلفا بعد سلف.. هذه الفكرة ابتكرها مبدع السوابق الأولية «عمر بن الخطاب» (ر) وهو طعين يقترب من لقاء ربه، فكان إلهاما فى أخريات أيامه يختم به تاريخا من «الاجتهاد الإبداعى»... فأبدع عمر (التأليف)، ثم أبدع ابن عوف قد أبد (الإخراج).

 

 (2)

 

سقط ابن الخطاب ــ أثناء إمامته لصلاة الصبح ــ مطعونا بيد أبى لؤلؤة المجوسى إذ تخفى المجوسى بين المصلين ثم طعن عمر وهو راكع وولى هاربا. وقرر الطبيب أن الطعنة نافذة لا علاج لها، وقد دنا الأجل، فإذا عمر رغم ما فيه لم يتخل عن المسئولية، واهتم بالمستجد السياسى بعده، فاكتشف عمر ضرورة التقعيد والترتيب، حيث ان ستة من الكبار المدعومين بعصبيات قرشية يرى كل منهم فى نفسه الكفاءة، وقد تطاوعه قرابته مما يؤدى إلى نزاع يفضى إلى صراع ثم فوضى. فاقترح عمر فكرة إجماع المرشحين على (مرشح توافقى) فقال «إذا فرغتم من دفنى فليدخل هؤلاء الستة بيتا ولا يخرجوا منه، ولا يدخل عليهم أحد حتى يتفقوا على مرشح منهم فيعرضونه على الناس». وهؤلاء المرشحون المحتملون هم: عثمان بن عفان، على بن أبى طالب، سعد بن أبى وقاص، عبدالرحمن بن عوف، الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله. وقد حضر خمسة من المرشحين، وغاب طلحة نظرا لعدم وجوده وقتئذ، ثم بدأ الحوار والنقاش.

 

(3)


رأى ابن عوف إصرار جميع الخمسة على الترشيح، فكيف ينجح فى إنجاز فكرة عمر حصارا للجدل وتمكينا للمواطنين من حسن الاختيار، فأسرع هو إلى التنازل، ورغم ذلك بقى الأربعة على إصرارهم مع أن كلا منهم لا يملك إلا صوتا واحدا هو صوته، وهكذا تمكن ابن عوف من حسن إدارة الأزمة، فأصبح هو الصوت المرجح، فطلب من زملائه أن يدخل كل منهم حجرة خاصة، وبدأ بلقاء ابن أبى طالب منفردا، وقال له «أرأيت إذا لم أرشحك فبماذا تنصحنى؟» فأجابه «إذا لم ترشحنى فأنصحك بعثمان» فقال عبدالرحمن «فإذا لم يكن عثمان؟» فقال على «فأنا أولى».. وهكذا نجحت دبلوماسية عبدالرحمن أن يجعل عليا يقبل التراجع إذا كان المرشح المؤكد عثمان. ثم ذهب إلى عثمان وفعل معه مثلما سبق فكان رد عثمان مثل رد على حيث رضى عثمان بأن يتنازل إذا كان المرشح المؤكد هو على.. وهكذا رضى كل منهما أن يكون أولا أو ثانيا. وجاء دور سعد فقال له مثلما سبق فرد سعد: أنصحك بعلى بن أبى طالب فعاد يقول «فإن لم يكن على؟» فرد سعد «فليكن عثمان» فقال عبدالرحمن «فإن لم يكن عثمان؟» فرد سعد «فأنا إذن».. وهذا تقرير من سعد أن يتنازل إذا سبقه عثمان أو على.. ثم كان مع الزبير ما كان مع سابقيه فكانت اختيارات ابن العوام هكذا: «عثمان، فإن لم يكن فعلى، فإن لم يكن فأنا أولى». وهكذا اقتربت المشاورات من نهايتها، فها هما سعد والزبير يقر كل منهما على نفسه بأنه يرضى أن يتنازل إذا تقدمه عثمان أو على.. لقد حانت ساعة الوصول.. فهو الآن أمام مرشحين اثنين رضى كل منهما أن يتنازل إذا تأكد ترشيح الآخر كما أن الأربعة قد قرروا منفردين حصر التنافس بين عثمان وعلى.

 

(4)


بدأ عبدالرحمن جولة أخيرة فعاد إلى على وقال له: «تبايعنى على الكتاب والسنة وسيرة أبى بكر وعمر؟» فرد على: «أما الكتاب والسنة فنعم، وأما سيرة أبى بكر وعمر فلا» فقد كان لعلى برنامج سياسى يختلف عن برامج السابقين، ثم ذهب إلى عثمان وعرض عليه ما سبق فقال عثمان «أبايعك على الكتاب والسنة وسيرة الشيخين وأدعو الله أن يوفقنى وأن تساعدونى».. هكذا اطمأن عبدالرحمن إلى انحصار البرامج المرشحة فى رؤيتين فقط. أولاهما ترى الاستمرار دون تغيير والأخرى تتخذ التغيير أساسا للعمل، ولكن عبدالرحمن وغالبية أهل المدينة كانوا فى ذلك الوقت يرون ضرورة الاستمرار بسبب مقتل عمر المفاجئ، لذلك أعلن عبدالرحمن انتهاء المفاوضات فالسفينة وصلت الشاطئ.

 

(5)


وخرج الجميع إلى المسجد فحضروا صلاة العصر مع الناس، ثم خطب عبدالرحمن فقال «إن المرشحين قد تركوا الأمر لى، وها أنا أعيد الأمر لهم ولكم جميعا» ثم نادى «يا على: أتبايعنى على الكتاب والسنة وسيرة الشيخين؟» فأعاد على أمام الناس ما سبق أن قاله لعبدالرحمن بموافقته على الكتاب والسنة ورفضه الالتزام بسيرة الشيخين. فقال له اجلس ــ ولم يعترض أحد فى المسجد ــ ثم نادى عثمان وعرض عليه ما سبق فجهر عثمان علانية بما سبق أن قاله فى المشاوارات.. فأمسك عبدالرحمن بيد عثمان وقال: «بايعتك فأنت الأمير»، وهنا سارع جميع من فى المسجد إلى بيعة عثمان وكان ذلك أول إبداع لاختيار مرشح توافقى بواسطة المرشحين، فهذا أولى وأفضل.. أليست فكرة جيدة تستحق التأمل؟

 

(6)

 

وليس فى هذا القول دعوة إلى نظام البيعة، ولا تركا لنظام الانتخاب، ولا تحمل الدعوة حرمانا لأى مواطن من حقه فى الترشيح، ولا نتصور أن يكون المرشح القادم داعيا للاستمرار مع الفساد السابق، ولا مع مجرد الإصلاح حيث إن الفساد القائم يستلزم اقتلاعا وتغييرا كاملا.

 

وكل ما فى الأمر أن نفعل مصارحة النفس، والقبول بالتشاور والمقارنة، فقد يفلح البعض فى إنصاف نفسه قبل أن يواجه الجماهير ولا يلوم إلا نفسه، حيث إن حصول أى مرشح على أقل من 40% من أصوات الحاضرين يعتبر دليلا واضحا على عدم فهم هذا المرشح لنفسه ومصلحتها، فكيف يتقدم ليحمل مسئولية الآخرين؟!.. ونستخرج الفقه السياسى فى (الترشيح التوافقى) فى المقال التالى.

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات