عيون - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عيون

نشر فى : السبت 24 مايو 2014 - 6:30 ص | آخر تحديث : السبت 24 مايو 2014 - 6:30 ص

خبر صغير لم يتجاوز بضعة أسطر، شغل مساحة ضيقة فى صحيفةٍ يومية. حَمَلَ الخبرُ معلومات مختصرة حول تِقنية متطورة تُجرِّبها إحدى الشركات اليابانية المعروفة، وتتابع مِن خلالها نظرات المتسوقين فى أماكن البيع والشراء. تعتمد التقنية الجديدة على إرسال شحنة مِن الأشعة تحت الحمراء إلى أعين الأشخاص المتسكعين أمام واجهات المَحَال التجارية، فتعكسها قرنياتهم، ثم يتم استقبالها عن طريق وحدة استشعار مُتَخَصِّصة تقوم بترجمتها. تُعطى وحدة الاستشعار بيانات متنوعة حول البضائع والمعروضات التى نظر إليها كل شخص: تلك التى عَلَقَت بها عيناه لفترة طويلة، وتلك التى اجتذبته للحظات، وتلك التى لم يلتفت إليها مُطلقا.

تناقلت الخبر صحف ومواقع عربية كثيرة، لكن أحدها لم ينتقد فحواه. قيل إن شركات التسويق تستعد لاستخدام هذه التقنية فور طرحها، وبالتالى سوف تمتلك الكيانات الكبرى التى يرتكز اقتصادها على ترويج السلع الاستهلاكية، أداة جديدة أكثر تقدما ودقة، تُمَكِّنها مِن إغراء الزبائن بكفاءة متصاعدة، ومِن اجتذاب مستهلكين جُدد إلى نطاق تخصصها، ومِن ثَمَّ مضاعفة أرباحها.

•••

نَوَّهَت الشركة اليابانية عن إمكانية استخدام ابتكارها مستقبلا فى مجال ألعاب الفيديو، وفى حماية قائدى السيارات الذين يغلبهم النوم ويغلقون عيونهم عن الطريق، لكنها لم تذكر أية فائدة قد تعود على جمهور المتسوقين العريض الذى سوف تسلط عليه ابتكارها، وقد بدا إن المكاسب التى ستجنيها مصانع الأغذية الكبرى والأدوات المنزلية، وشركات الأجهزة الإلكترونية التى يصعب حصرها، والتى تشهد تحديثات هائلة يوما بعد يوم، هى الأكثر بروزا وإثارة للنهم.

الحصيلة النهائية هى؛ مزيد من التوجيه للزبائن، ومزيد من السيطرة على ملايين وربما مليارات المستهلكين حول العالم، وفى حين يتصور هؤلاء بسذاجة أنهم قادرون على اتخاذ قرارات شرائية مستقلة، ومناسبة لقدراتهم ومواردهم المادية، فإنهم فى حقيقة الأمر خاضعين لإرادة الشركات العملاقة وكبار التجار والمستثمرين، ولفروض التكنولوجيا الحديثة، وعلى كلٍ؛ يذعن الناس لأساليب شتى من الابتزاز منذ قديم الأزل، لم تكن الأضواء البراقة وألوان الإعلانات المبهرة أولها، ولن تصبح مراقبته عن طريق ابتكار الشركة اليابانية آخرها.

•••

بحثت فلم أجد إشارة واحدة للضوابط التى ستتم مِن خلالها تجربة التقنية الجديدة، ولا ذكر للشروط التى ستحكم تعميمها واستخدامها فيما بعد، وأظن أن أخلاقيتها محل شك مِن زاويتين: أولاهما؛ جواز مراقبة أى إنسان بغير علم منه، وتسجيل معلومات خاصة به، حتى ولو كانت محصورة فى نطاق تتبع نظراته واتجاهها والوقت الذى قضاه محدقا هنا أو هناك، أما ثانيهما؛ فتعريض شخص ما دون موافقته إلى جرعة ــ ولو كانت ضئيلة ــ من الأشعة التى تخترق جسده وأنسجته وتصنع فيهما تَغَيُّرا ما، حتى وإن كان هذا التَغَيُّر غير مرصود ولا ملموس.

أتصور أن تخرج مِن وحدة الاستشعار والأجهزة الملحقة بها بيانات طريفة؛ فهذا رجل قضى وقته يُحَدِّق فى مانيكان مبهرة القوام، وهذه امرأة لم تتحرك مِن مكانها لدقائق طوال مشتهية أطقما ثمينة مِن الكئوس والأطباق، وتلك فتاة شابة تقافزت عيناها بين عشرات الأحذية والحقائب، وذاك طفلٌ تَسَمَّرَ أمام جهاز إلكترونى جديد يحمل ألعابا لا حصر لها. كاميرا صغيرة مُثَبَّتة فى واجهة المحل قد تنقل صور الواقفين أمامه ليحدث ربط بينها وبين بيانات وحدة الاستشعار، فتسمح بمعرفة أعمار وأجناس المتسوقين، وربما شخصياتهم ووظائفهم، لكنها على الجانب الآخر تخرق خصوصياتهم، أو فلنقل ما تبقى من الخصوصية التى تتساقط أوراقها تِباعا بفعل التَقَدُّم السريع. كتب رامى منذ عقود: الصَبّ تفضحه عيونه، واليوم تؤكد التكنولوجيا اليابانية إن المرءَ تفضحه قرنيته.

•••

تتضاعفُ أساليب المراقبة يوما بعد يوم، تفترسُ أدقَّ التفاصيل، وتخترقُ الذرات، وتُسجِّل ما لم يكُن فى البال. أتصور أجهزة ووحدات استشعار مستقبلية قادرة على التقاط المشاعر والأحاسيس التى لا تُفصِح عنها تعبيرات الوجه وملامحه، فيُعَنَّف فلان مِن مديره لأنه أنجز العَمَلَ ضَجِرا، ويُجَازَى فلان فى مدرسته لأنه أدى الواجبَ دون حماسةٍ كافيةٍ، ويُعتَقَلُ فلان لأنه انتخب مُتَأفِّفا مَجبُورا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات