مراجعات ثورة يوليو 1952 - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 8:41 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مراجعات ثورة يوليو 1952

نشر فى : الإثنين 24 يوليه 2023 - 7:45 م | آخر تحديث : الإثنين 24 يوليه 2023 - 7:45 م
حتى لا تضل طريقها، أو تحيد عن الأهداف الوطنية والتطلعات النبيلة، التى من أجلها زحفت. خضعت نماذج ثورية عالمية بارزة؛ كمثل الثورة الفرنسية عام 1789، ثم الكوبية عام ١٩٥٩، وصولا إلى البولندية سنة ١٩٨٩، لعمليات ممنهجة، شاملة، وموضوعية، من المراجعة والنقد الذاتى. ابتغاء تصحيح المسارات وإعادة ترتيب الأولويات. وغالبا ما تنطوى تلك العمليات، على تتبع دقيق لسيرورة الثورة، ضمن سياقات زمانية ومكانية متغيرة. مع إعادة التفكير فى أهدافها، ومعاودة تحليل خطابها، وتدبر انحيازات وتوجهات النخب الفكرية والسياسية، التى تمخضت عنها.
على استحياء، وبعد انقضاء عقد زمنى كامل على اندلاعها، وتحت وطأة انتكاسات ثورية صادمة، وإخفاقات وطنية موجعة؛ حاولت ثورة المصريين، التى تفجرت شرارتها فى يوليو 1952، التأسى بتلك النماذج الثورية العالمية. حيث جنح الزعيم الراحل، جمال عبد الناصر، لممارسة النقد الذاتى مرتين: كانت أولاهما، فى يوليو 1962، أى عقب الأفول الصادم لتجربة الوحدة المصرية ــ السورية. وثانيتهما، فى أعقاب الهزيمة العسكرية المفجعة فى يونيو 1967، والتى زلزلت الأرض تحت أقدام القائد المهيب، الذى وصفه الشاعر العراقى الشهير، محمد مهدى الجواهرى، بأنه «عظيم المجد والأخطاء»؛ بينما ارتآه الشاعر السودانى الكبير، محمد الفيتورى، رمزا لما أسماه «جلال الانكسار». عقب فشل النموذج الاتحادى الفيدرالى للجمهورية العربية المتحدة (1958ــ1961)؛ شعرالزعيم المكلوم، بأن الوقت قد حان لاتخاذ تدابير إصلاحية، بقصد ضخ الحيوية فى نظامه المتيبس. فأنشأ مجلسا للرئاسة، يضم سبعة من أعضاء مجلس قيادة الثورة؛ وتنازل له عن اختصاصات رئاسة الجمهورية، تطبيقا لفكرة القيادة الجماعية، التى كان يتبناها، وقتذاك، رئيس يوغوسلافيا، جوزيف تيتو. وأثناء جلسة لمجلس الوزراء، يوم 19 أكتوبر 1961، اعترف، عبدالناصر، بوقوعه فى فخ الاستغراق فى وضع الخطط وبلورة مشروعات التنمية، دون الاهتمام بالعمل السياسى التنظيمى؛ من أجل تعبئة كل القوى الوطنية لمؤازرة الثورة. تذهب الدكتورة، هدى جمال عبد الناصر، إلى أن والدها الراحل، قد انبرى بعد الانفصال عن سوريا عام 1961، فى التصدى لقوى الثورة المضادة، من خلال إطلاق «ثورة سياسية واجتماعية». معتبرة أنه ثار على نظامه، عبر تبنى إصلاحات، أحدثت تغييرات فى البنية الطبقية، وأنتجت حراكا اجتماعيا غير مسبوق. فبعدما أقر، فى نقده الذاتى، عامى 1964 و1965، «أن الوضع مخيف»، عمد إلى إعادة هيكلة قوى الشعب الوطنية؛ وأنشأ تنظيما سياسيا جديدا، يستوعب العمال، الفلاحين، المثقفين، الجنود، والرأسمالية الوطنية. كما عزل الرأسمالية المستغلة وقلّم أظافرها، ليقطع الطريق أمام الرجعية والرأسمالية الانتهازية؛ ويمنعهما من انتزاع صدارة المشهد السياسى، وإقصاء العناصر الوطنية المؤمنة بالثورة. كذلك، تصدى الزعيم لظاهرة انحراف الجهاز الإدارى، وتفشى الشللية والمحسوبية فى مؤسسات الدولة، بما فيها الأجهزة والجهات العليا. وأعلن الحرب على الانتهازية والفساد، ووضع نظام المؤاخذة وتقويم الانحراف، متوسلا القضاء على «الستار الحديدى»، الذى يحرم المواطنين من إثبات كفاءتهم، ونيل حقوقهم. بين ثنايا إشادتها بنقد والدها الراحل لنظامه، عقب هزيمة يونيو 1967، أوردت الدكتورة، هدى، التى شرفت بأستاذيتها لى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، «أنه فى الثالث والرابع من أغسطس 1967، انكب الرئيس على تشريح نظامه، وقام بنقد ذاتى لم يفعله أعداؤه. فقد قاد الزعيم، بنفسه، مراجعات معمقة لأسباب الهزيمة، وأوجه الخلل فى بنية نظامه السياسى. وفى محاضر رسمية، حاكم نظامه، حتى بلغت انتقاداته مستوى الثورة السياسية. وقد كان مستعدا، أكثر من أى مسئول آخر فى ذلك النظام، لتقبل كل نقد جراء الهزيمة. فى الوقت الذى لم تكن غالبية المحيطين به مؤهلة، لاستيعاب وتقبل هكذا توجه؛ متذرعة بمخاوفها من أن يفضى البدء فى الإصلاح السياسى، قبل إزالة آثار العدوان، إلى إرباك الدوله المأزومة. هذا، فى حين كانت المراجعات السياسية، تجرى بموازاة جهود إعادة بناء القوات المسلحة، وإطلاق حرب الاستنزاف المجيدة، بأطوارها المتنوعة، والمُشرفة فى آن. إبان اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى، فى الثالث من أغسطس ١٩٦٧، استشهد، عبد الناصر، بقصيدة روسية شهيرة ذاعت فى ذلك الوقت، كانت تقول: «ليتنا نقول الحقيقة ولو لمدة ثلاث دقائق!». وقال: «لقد استنفد النظام الحالى مداه؛ ولا بد من بناء نظام جديد.. لا أريد معارضة ممسوخة.. أنا ضد نظام الحزب الواحد، لأنه يؤدى إلى قيام ديكتاتورية تحتكرها مجموعة محدودة من الأفراد.. إن لم نغير نظامنا الحالى سنمضى فى طريق مجهول، دون أن نعلم من يتسلم البلد بعدنا. لذلك، أرى ضرورة تغيير نظامنا، بحيث لا يسمح النظام الجديد لشخص، أو لشلة غير واعية، أو جاهلة سياسيا، أن تحكم البلد، الذى أعطانا ثقته المطلقة بلا حدود». وفى محضر جلسة تالية، قال: «أعتقد أن الطهارة الثورية بعد خمسة عشر عاما من الثورة، أصيبت كثيرا. وحتى الوحدة الفكرية بيننا أصبحت غير موجودة. اختيارنا للنظام المفتوح يحتاج إلى كثير من التغيير، وإلا سينظر إليه الناس بعدم الثقة». رغم إقراره بعدم مشروعية استمرار أى نظام سياسى يعجزعن حماية ترابه الوطنى؛ ارتأى، عبدالناصر، تظاهرات التاسع والعاشر من يونيو 1967، التى رفضت تنحيه بعد الهزيمة المدوية، وطالبته بمواصلة الحكم؛ أملا فى إزالة آثار العدوان، وإعادة بناء الجيش، واسترداد الأرض المحتلة، ومعها الكرامة الوطنية الجريحة، بمثابة عفو شعبى عام عن خطايا تاريخية، لا تغتفر، وما كان ينبغى لها أن تمضى بغير مساءلة شفافة ومحاسبة عادلة. كما اعتبرها تفويضا جديدا، وغير مشروط، لمواصلة مسيرة صعبة، على درب عسير، فى توقيت حرج، وظرف تاريخى حالك الظلمة. أملا فى تجاوز المحنة، واسترداد الكبرياء، ورد الاعتبار.
استغرقت حركة الضباط ليلة الثالث والعشرين من يوليو 1952، عشرة أعوام حافلة بتحولات عميقة، على الصعد السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية، حتى تلامس عالم الثورات الشعبية الحقيقية. وطوال تلك المدة، ظلت انتقادات، عبد الناصر، ورجاله، وإعلامه، لأحوال البلاد والعباد، موجهة، بالأساس، صوب مجريات الحقبة الزمنية، التى سبقت اندلاع تلك الحركة. أما ما يمكن وصفه مجازا، بالنقد الذاتى، أو المراجعات، اللذين شرع الزعيم الراحل فى ممارستهما، بعد مرور عشر سنين على انفجار «الحركة المباركة»؛ فقد اكتسيا سمتا مرحليا، اضطراريا، وانتقائيا. فعلى وقع فشل تجربة الوحدة المصرية ــ السورية عام 1961، ثم هزيمة يونيو 1967، اتجهت بوصلة مراجعات، الزعيم، تلقاء انتهاكات وإخفاقات رفقاء دربه، وسقطات بعض شركائه فى الحكم. وذلك بعدما تحولوا، بمرور الوقت، وبجريرة التفنن فى التهرب من المسئولية عن الفشل، أو التنازع على السلطة، وحصد المغائم، وتعظيم النفوذ؛ إلى منافسين، أو ربما خصوم وأنداد له. وكأننا بالزعيم المغدور، وقد تفانى فى حشد القرائن الكفيلة بإدانتهم قانونيا، سياسيا، وجماهيريا، توطئة لتسهيل مهمته المزمنة والمستعصية، المتمثلة فى التحرر من أعبائهم، وإزاحتهم من طريقه، وتخليص الناس من شرورهم. إلى حد بعيد، آتت مراجعات، عبد الناصر، على الصعيد العسكرى، أكلها. حيث أسفرت عن تطهير القوات المسلحة، وإعادة بنائها على أسس عصرية سليمة، تسمو فوق الجهل والعشوائية، وتنأى عن الشللية والمحسوبية. وهو ما تجلت أصداؤه الإيجابية فى إنجازات حرب الاستنزاف العظيمة، التى تكللت بإتمام الجهوزية العملياتية لخوض معركة تحرير الأرض واستعادة الكرامة. فما إن تم الانتهاء من تشييد حائط الصواريخ، ودفعه حتى شاطئ الحافة الغربية لقناة السويس، فى أغسطس 1970؛ حتى اكتملت عناصر الإعداد وأنشطة التدريب المتعلقة بالخطة «جرانيت ــ1». والتى كانت تستهدف عبور قناة السويس، ثم الانطلاق نحو الاستيلاء على خط المضايق والممرات، فى وسط سيناء. بنذر يسير من الموضوعية، جاءت المراجعات السياسية للزعيم الراحل. فعلى غرار بيان 30 مارس 1968، افتقدت الجدية والقابلية للتطبيق العملى. حيث بدت ظرفية، أو إلى انفعال شعورى أقرب، أو مدفوعة بوازع ضميرى عابر، جراء الإخفاقات التاريخية المؤلمة. وكأن، عبد الناصر، كان يبتغى من ورائها، الحفاظ على ما تبقى من حياء وطنى وقومى. أو ربما احتواء طوفان الغضب الجماهيرى الهادر، أو إزاحة من نازعوه الزعامة، وتحرير نظامه المتكلس من ربقة الأحمال الزائدة والأذناب الفاسدة. ولعل هذا ما يفسر تعثر، المراجعات والنقد الذاتى لثورة يوليو 1952، فى إدراك التغيير المطلوب، أو بلوغ الإصلاح المنشود، اللذين كانت البلاد، فى مسيس الحاجة إليهما. رغبا فى عبور الهزيمة، وتخطى تداعياتها المؤلمة، التى لم يبرأ وطننا من جروحها الغائرة، حتى يومنا هذا.
التعليقات