هذا.. أو الطوفان (قراءة متأنية للمشهد القائم) - أحمد كمال أبو المجد - بوابة الشروق
الأحد 2 يونيو 2024 5:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هذا.. أو الطوفان (قراءة متأنية للمشهد القائم)

نشر فى : الأربعاء 25 يوليه 2012 - 9:10 ص | آخر تحديث : الأربعاء 25 يوليه 2012 - 9:16 ص

لا يعرف أهل القانون وأهل السياسة وعامة المصريين، مرحلة من تاريخ مصر الحديث، امتلأت فيها الساحة بحوارات ثنائية وجماعية، على صفحات الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، وعلى شاشات التليفزيون بقنواته الحكومية وقنواته الفضائية والخاصة، على النحو الذى يراه المصريون جميعا، منذ قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير قبل الماضى.. وبلغ من ازدحام هذه المنابر الإعلامية بالحوار حول القضايا السياسية المعاصرة بجوانبها المتعددة أن صارت متابعة هذه الحوارات جزءا أساسيا من أجزاء الحياة اليومية لأكثر المصريين، شغلهم عن كل ما عداها حتى لم يبق موقف من قضية أو مشكلة أو نشاط عام إلا واجتمع الناس حوله فى حلقات معقوده أو قنوات تليفزيونية وإذاعية مشهودة.. والأمر الغريب الذى يثير القلق أن هذه التعددية المفرطة فى طرح القضايا الكبرى وإدارة الحوار حولها، لم تتمكن بعد من حسم أىٍّ من القضايا المطروحة والمعلقة ولم تفلح فى تحقيق توافق نهائى حول الجوانب الإجرائية والقضايا الموضوعية التى ينبغى أن تقوم عليها وتتضمن موقفا واضحا منها نصوص الدستور المرتقب، بل ازداد المشهد السياسى مع الأيام تعقيدا وارتباكا وتبادلا للاتهام والإدانة بين طوائف وفصائل المشاركين فى حلقاته الموصولة على نحو يجعلنا نتذكر الفارق الكبير بين تحديات طبيعية يواجهها المشاركون فى الحوار الوطنى الدائر، كل حسب موقفه من القضايا المحورية الكبرى التى يقوم عليها ذلك الحوار ــ وبين موقف تتداخل فيه الخيوط وتتقاطع الخطوط وتتحول المشكلات إلى فتنة «تذر الحليم حيرانا» كما يقول الحديث النبوى الشريف.

 

وأعتقد أن النظرة الموضوعية الصادقة إلى كل ما يدور حولنا خلال العامين الماضيين يكشف أننا نعيش «زمن فتنة» ولا نعيش أزمة عارضة.. والدليل الواضح على هذا له مكونات وأسباب عديدة:

 

أولها:  إن عملية فرز القوى المجتمعية والسياسية من حولنا قد صارت بالغة الصعوبة.. فمن العسير جدا أن تميز «الثورى الحقيقى» الذى نذر نفسه وخبرته وقدراته المختلفة أيا كان مقدارها لخدمة شعب مصر عبر تحقيق الأهداف التى أعلنها الثوار والتى تتمثل فى إزالة النظام السياسى القديم وتحرير شعب مصر من نفوذه وسلطانه الذى جَمَّد الحياة السياسية، وحافظ إلى حد كبير على التفاوت الطبقى الذى تصاعد وهو يرفع شعارات كافية عن «العدالة الاجتماعية» والمشاركة السياسية الحقيقية بعيدا عن الترغيب والتزييف والترهيب.. فوقع فصام بالغ الخطورة بين كل ما يقال ويعلن وكل ما ينفذ ويفعل.

 

ثانيا: إن القوى الثورية فوجئت بنجاح مساعيها لإسقاط النظام القائم فلم تبادر إلى اختيار قيادات تتحدث باسمها، وتتوافق مقدما على الأهداف التى يسعى العمل الثورى إلى تحقيقها، وعلى ترتيب تلك الأهداف من حيث الأهمية، ومن حيث تراتب مواقعها من برنامج العمل الثورى.. فتشكلت معالم فترة انتقالية عشوائية، وضاعت الرؤية الموضوعية وتفلتت بين أصابع القيادات الثورية الفعلية التى تعانى نقصا كبيرا فى الخبرة المتراكمة، وفى الصيغ التنظيمية الأساسية التى تكفل نجاح أى انتفاضة ثورية واعية.

 

ثالثا: إن هذه النواقص كلها قد تعاصرت مع أزمة اقتصادية وتنموية بالغة الحدة.. فدفعت الجماهير كلها ثمنا باهظا لمحاولات لم تكتمل لتحقيق نهضة سياسية واقتصادية متكاملة.

 

رابعا: إن ما طرأ على التركيبة السياسية من تغير هائل فى موازين القوى السياسية التى تشغل المساحة الكبرى من «الفراغ السياسى» قد أفضى إلى استقطاب بالغ الخطورة، شديد الحدة، بين ما يطلق عليه تبسيطا «تيار الإسلام السياسى» وبين قوى أخرى يطلق عليها اسم القوى الليبرالية، وهى تقسيمات غير دقيقة على الإطلاق، وتنطوى على تبسيط غير علمى وغير عملى لهذه القوى.. فلم يعن أحد باستيضاح الفوارق الكبرى القائمة بين هذا الذى سمى «الإسلام السياسى» ولا بالفوارق الكبرى التى تباعد بين قوى يجمعها وصف «الليبرالية» ومعنى هذا من المنظور العلمى والعملى أننا نتعامل تعاملا واحدا مع تيارات بينها تناقضات وخلافات كبيرة وذلك خطر حقيقى يطارد مسيرة الثورة.. ويضع قيادتها الفعلية ــ حين توجد ــ فى موقف بالغ الصعوبة. 

 

ودعونى انتقل من هذا التعميم الذى أتمسك به إلى صور عملية قائمة تتعلق بأمور كبيرة ولكنها أكثر تفصيلا:

 

أولا: هوية الدولة والمجتمع بعد نجاح الثورة.. فكثير من القوى الممثلة لتيار الإسلام السياسى ليست لديها صورة دقيقة أو حتى شبه محددة لطبيعة النظام الذى تريد إقامته.. وتلك مشكلة ثقافية فى المقام الأول.. لأن كثيرا من القيادات التى توجه هذا التيار ليس لديها العلم النظرى ولا الخبرة العملية الكافية.. وغاية ما يملكه بعضهم شعارات يرفعونها ويتصورون بعيدا عن ــ المسئولية الواجبة ــ صورة تفاصيلها الكبرى والأساسية ومنهجهم الناقص القائم على «التجربة والخطأ الذى يتلوه خطأ مثله» فتجربتهم فى هذا الإطار الضيق ليست لها المشروعية الموضوعية الناتجة عن علم سابق، أو تجربة سابقة جرى تقييمها وإنما بعضهم يمارس «التجربة فينا» نحن عشرات الملايين من شعب مصر.. وهذا كله موقف يثير القلق المشروع.

 

فضلا عن أنه ــ بالضرورة ــ يفتح أبوابا واسعة لمواجهات ومصادمات لا يقف وراءها «علم ولا هدى ولا كتاب منير»، كما لم يسبقها أو يصاحبها جهد موضوعى أمين لقراءة المشهد الذى تجرى فى إطاره تجربتهم.

 

أما القوى الليبرالية ــ ودعنى أيها القارئ الكريم ــ استعمل هذا المصطلح بمعناه العام السائد هذه الأيام فى خطابنا وأدبنا السياسى.. فأقول إن هذه القوى وقيادتها المحدودة عددا قد فوجئت بالنجاح الكبير الذى حققته قوى الإسلام السياسى وما يهدد به هذا النجاح المتصاعد رغم الأخطاء العديدة التى وقعت فيها ممارسات ذلك التيار ــ فوجدت هذه القوى الليبرالية نفسها فى مواجهة أخطار يمكن أن تكون حقيقية يتعرض لها الكيان المجتمعى كله، فبدأت ــ بغير تخطيط واجب ــ عملية تسعى بكل الوسائل والأدوات.. لقتل تيار «الإسلام السياسى» مستعينة بكل أدوات الصراع والمغالبة المتاحة.. ووقف الخلق فى مصر ينظرون إلى معركة لا يعرفون نتيجتها بين قوى لم يشاركوا فيها وبين قوى لم يمنحهم قادتها المتحدثون باسمها فرصة المشاركة الفعالة فى الخلاف الحاد القائم بين تلك القوى والتى شغلتها خلال الصراع عن التواصل مع القواعد الشعبية صاحبة «السيادة الثورية» فى المجتمع.. حتى أصبح المشهد كله مرتبكا ومحيرا.. لا يعرف أحد نتائجه.. مما يهدد الفرص الحقيقية المتاحة لانتقال سريع من «الانتفاضة الثورية» إلى العمل اليومى الجاد موصول الحلقات لتحقيق أهداف الثورة على أرض الواقع.

 

ويضيق المقام عن تفصيل وسائل الخروج من هذه الأزمة خصوصا فى ظل وجود مستمر «لقوى الثورة المضادة» مما ينتج بعضه عن جهود تلك القوى، وما يصاحبه من وجود «قوى أجنبية» لها مصالح تجعلها تنحاز فى النهاية إلى جهود إجهاض الثورة لأسباب تتعلق بها هى وبمصالحها التى تتناقض تناقضا أساسيا مع مصالح «قوى الثورة».

 

والمخرج الأساسى من مخاطر هذه المرحلة الانتقالية التى حرمت من الإعداد المخطط لمواجهة أخطار حقيقية تحيط بها ولا تزال تكافح للعودة إلى نفوذها القديم.. هذا المخرج يحتاج إلى أمور ثلاثة لابد أن تتحلى بها قوى الإنقاذ والمصالحة:

 

أولا: إدراك الحقائق الكبرى التى تملأ ساحة العمل فى الفترة الانتقالية الثانية ذات المراحل المتعاقبة والمتجددة.. وهو ما يبدأ بتحديد من هو الصديق ومن هو العدو.

 

ثانيا: إحياء الهمة لدى الحكام والمحكومين، وهى همة صارت ترتفع أحيانا ويهبط بها شعور الإحباط واليأس أحيانا أخرى، وقديما قيل بحق «رب همة أحيت أمة»، وهذا الإحياء يقع على كتفين اثنين.. أولهما: كتف المؤسسات التى تقود العمل الوطنى فى هذه المرحلة الانتقالية الثانية.. أما الكتف الثانى: فهو كتف «النخبة المثقفة» التى يؤسفنا أن كثيرا من أعضائها قد ضلوا الطريق، ووقعوا وأوقعوا معهم جماهيرهم فى مأساة غموض الأهداف والعجز عن رؤية الأولويات.. فضلا عن العجز أو قل التقصير فى معرفة الصديق المؤازر وتمييزه عن العدو المتآمر. وقد ــ والله ــ آن للعناصر القيادية المؤثرة فى التيار العام فى هذه النخبة أن يتوبوا عن ارتداء الأقنعة والخلط ــ عمدا أو بحسن نية ــ بين العدو والصديق، والإصرار الخاطئ على إهدار التحديد الواضح للأولويات.. هذه فى النهاية دعوة صريحة إلى أمرين اثنين:

 

1 ــ أن تدرك كل القوى الممثلة للثورة والمشاركة فيها بوجه أو آخر أن التوافق الوطنى حول القضايا الأساسية هو طريق الخروج من الأزمة، وبه تحقق كل هذه القوى الجزء الأكبر من أهدافها، وتضمن الحماية المنشودة والواجبة لمصالحها، وأن الاختلاف والصراع هو أول الطريق المؤكد لإجهاض الثورة أو صرفها عن أهدافها أو تعويق التنمية والدخول المؤكد فى عنق زجاجة أشد ضيقا يضار به الجميع.

 

2 ــ إننا ندعو إلى أن تنهض جماعة محدودة العدد بعيدة تماما عن ذوى النيات السيئة، وذوى الأجندات الخاصة، والساعين إلى حماية مصالحهم الضيقة، وأن يكون أفراد هذه الجماعة من ذوى النيات الخالصة، والمعرفة العميقة والواسعة بأصول ومنهج «المصالحات» وطقوسها الضرورية، وأن تكون المهمة الأساسية لهذه الجماعة السعى فورا لإقامة حوار بين قوى الثورة المختلفة، تؤدى بها دورها فى التقريب وتحقيق مصالحة نهائية فى زمن قريب.. هذا ــ والله ــ أو الطوفان.

أحمد كمال أبو المجد مفكر اسلامي وفقيه دستوريالنائب السابق للمجلس القومي لحقوق الإنسان
التعليقات