عالمها كبير وصغير فى آنٍ. تعيش وحدها فى شقتها التى تقع بخان جعفر، أجمل مناطق الجمالية، وقد تحولت إلى ورشة مليئة بكائنات رقيقة من صنعها. صار المكان يشبه المتحف. يعج بالعرائس المتحركة الصغيرة التى تخصصت فى ابتكارها، ترقص وتلف حول نفسها على نغمات الموسيقى أو تكتفى بتلويح ذراعها أو تحريك أحد ساقيها لتتبعها الأخرى فى لمح البصر كرجل يمشى فى صمت وسط ظلام الغرفة. حين قررت قبل عدة سنوات أن تستقر هنا على مقربة من مبنى البيمارستان، أحد روائع العمارة المملوكية التى يرجع إنشاؤها إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى، كانت مأخوذة بقصة جدتها وارتباط عائلتها بشكل عام بتاريخ هذا المشفى العتيق الذى ينتمى لمجموعة السلطان قلاوون بشارع المعز لدين الله الفاطمى واشتق اسمه من اللغة الفارسية فى إشارة إلى أنه دار للمرضى.
ترددت من جيل إلى جيل داخل الأسرة حكاية والد جدتها، المؤرخ والكاتب الموسوعى الذى تولى العمل الإدارى فى مبرة قلاوون الخيرية لمدة أربع سنوات فى غضون عام 1303م. اعتادت «ستهم» الكبرى أن تصاحب أباها وهو ذاهب إلى مقر عمله، تتنقل فى هدوء وسط الأعمدة الرخامية وتلعب بالقرب من النافورة التى أقيمت خصيصا لكى يضفى خرير مياهها السكينة على عنابر المرضى، وحين يئن هؤلاء من الألم ليلا يؤذن للفجر قبل موعده بساعتين ليشعروا بالراحة. جاء أيضا فى نصوص الرحالة أن المصابين بأرق أو اضطراب نفسى كانوا يعزلون فى قاعة خاصة ويستمعون إلى حكايات القصاصين وموسيقى الفرق الغنائية التى تأتيهم بانتظام لتحسين مزاجهم، وكان يُعطى لكل مريض يخرج من البيمارستان خمس قطع من الذهب حتى لا يضطر إلى العمل الشاق فى الحال.
ضم المشفى تخصصات مختلفة مثل الباطنة والجراحة وأمراض العيون والنساء والتوليد والتجبير والكحالة أى العظام، كما اشتمل على صيدليات ومخازن للعقاقير اعتمدت فى تركيباتها على مخطوطات علماء كبار أمثال ابن البيطار وابن النفيس والبيرونى. شبت الجدة فى هذه الأجواء، وبحكم تواجدها فى المكان تعلمت بعض أصول تجبير وتقويم العظام، وذات يوم تعلق قلبها بأحد الموسيقيين الذين كانوا يرفهون عن المرضى، واشتعل الحب بينهما.
• • •
تأثرت مريم، ابنة شبرا، بكل هذه التفاصيل التى ألهبت خيالها منذ الصبا، وأرادت أن تدرس هى الأخرى العلاج الطبيعى وتقويم العظام لتسير على خطى الجدة، وبرعت فى مجالها فور تخرجها من أعرق جامعات القاهرة، لأنها تتمتع بقدرة هائلة على الإنصات وبحساسية تجعلها تشعر بأبسط أوجاع الجسد تحت يديها، وأحيانا تحاول الطبطبة على الروح. أبحاثها فى الميكانيكا الحيوية غيرت نظرتها لطبيعة الإنسان وراحت تقارن بينه وبين الماكينات، كأنما قد فتحت صناديقه المغلقة ورأت ما بداخلها واكتشفت بمرور الوقت أن جسم البنى آدم هو عبارة عن سيمفونية معقدة، كل عظمة وكل عضلة وكل مفصل لهم وظيفة محددة، والميكانيكا الحيوية هى مثل كتابة النوتة الموسيقية لهذه السيمفونية الحركية، وعملها هى كممارسة لتقويم العظام يستوجب تطبيق المبادىء الهندسية على الإنسان لفك الاشتباك بين الأعضاء المختلفة وتحقيق التوازن المطلوب لتخفيف الألم أو إزالته إذا أمكن.
مراقبتها للأداء الحركى وآلياته جذبتها إلى عالم آخر لطالما أسرها وهى طفلة، وهو صناعة العرائس والدمى المتحركة. خلال أسفارها مع الأهل كانت تقف مشدوهة أمام الواجهات الزجاجية للمحال الكبرى فى أوروبا خلال أعياد الكريسماس.. تكتشف عالما ساحرا من الكائنات الدقيقة التى تتحرك وفق نظام محدد بواسطة تروس وحبال وروافع صغيرة وأشياء عدة، صارت خبيرة فيها مع الوقت وتعرف كيف تركبها وتوصلها ببعضها كى تحدث المعجزة ويتحرك الجماد، وأحيانا يتكلم ويغنى ويصدر أصواتا موسيقية ينام عليها الكبار والصغار مثل تهليلات برامز التى قد تستبدلها بتهويدة «نام يا حبيبى نام» إذا رغبت فى ذلك.
غاصت فى تحليلات أبقراط وديكارت ولاميترى التى قاربت بين الإنسان والماكينة. قرأت وصف هوميروس للعرائس المتحركة فى عصره، وعرفت أن كهنة مصر القديمة كانوا قد سبقوا الجميع فى هذا المضمار حين جعلوا تمثال الإله آمون يرفع ذراعه داخل المعبد ليشير إلى شخص الفرعون الذى وقع عليه اختياره، قبل أن يبدأ فى تلاوة خطابه على رءوس الأشهاد. وفى إحدى المرات، رأت نموذجا لدمية الأسد التى صنعها الفنان ليوناردو دافنشى فى القرن السابع عشر لتسلية الملك فرانسوا الأول، كما وقعت خلال عمليات البحث على البطة الميكانيكية المذهبة التى كانت تزين أحد متاحف روسيا، بعد ذلك بحوالى قرن من الزمان، وقيل إنها كانت تشرب وتأكل وتخوض فى الماء، وظلت معروضة هناك حتى احترق المتحف بما فيه. لكن جل ما شد انتباهها كانت العرائس التى تتحرك على الموسيقى، تفتح العلبة الصغيرة فتنطلق راقصة باليه على أنغام كلاسيكية أو تغنى مجموعة صغيرة من الغربان بدلا من أن تنعق.. كانت تنسجم بمجرد أن يهدهدها الصوت. وقد نجحت بالفعل فى صنع بعض هذه الدمى والمجسمات المتحركة، خاصة بعد أن اعتزلت عملها الطبى وتفرغت لهوايتها تلك.
• • •
لم يكن القرار سهلا، لكنه فرض نفسه عليها بعد أن فشلت فى علاج ابنة خالتها وتسببت لها فى عاهة مستديمة بسبب خطأ ارتكبته خلال إحدى جلسات العلاج الطبيعى. حاولت أن تتخطى المحنة، لكنها لم تنجح فى أن تسامح نفسها، وكان ألمها يتضاعف كلما رأت قريبتها المسكينة التى انقلبت حياتها رأسا على عقب. غيرت مريم مكان إقامتها، وانتقلت إلى خان جعفر حيث تعيش وسط شخصيات خلقتها بعناية وصبر وطبقت عليها القواعد التى تحكم حركة البشر.. يتفاعل جزء بآخر، يحدث تناغم أو تنافر، تعرف هى أصوله وتتحكم فيه، وإذا فشلت فلن يموت أحد أو يصاب بسوء. هنا هى محاطة بعصافير داخل قفص من صنع يديها، يصدحون ويحركون رءوسهم وأجنحتهم ببطء، خيول وفرسان تدور فى دوائر، تهبط وتصعد على إيقاعات متكررة، أحيانا تضيف إليها طابعا محليا، علبة خشبية مدهشة تعزف أربعين لحنا من اختيارها، ست نساء صغيرات يغنين بصوت خافت حين تقرر هى... لا أحد يتجاوز حدوده أو يحاول تخطيها، فكل شىء يسير وفق نظام ثابت، تماما كمشاويرها اليومية التى تعبر خلالها بوابة بيت القاضى، تسير داخل بناء قديم مقوس من أيام محمد على لتنتقل من خان جعفر إلى شارع المعز والبيمارستان، ذهابا وإيابا.