عندما كانت مصر توشك أن تدخل عصرا جديدا فى تاريخها الحديث عام (1974) نشرت روايته «نجمة أغسطس».
بحكم موضوعها عن إنجاز السد العالى، بدت فى توقيتها كأنها تغريد خارج السرب.
لم تكن عملا دعائيا رغم ضخامة المشروع وعمق أثره، ولا كانت عملا عدائيا يشارك فى الحملة على ثورة يوليو، التى أخذت مداها مع إعلان «الانفتاح الاقتصادى» فى ذلك العام.
وبحكم بنائها الأدبى، الذى يمازج بين التوثيق والسرد الروائى، أشارت إلى ظواهر سلبية فى بنية التجربة الناصرية أقرب إلى «المساءلة من الداخل»، بتعبير الناقد الأدبى الدكتور «جابر عصفور».
لم يكن ناصريا، لكنه لم يقبل أبدا أى تجاوز فى حقه من باب تصفية الحسابات السياسية.
إنها مسألة أفكار واعتقادات أولا وقبل كل شىء.
قرب نهاية رحلته فى الحياة نشر روايته (1970)، بذات المنهجية، التى تمازج بين التوثيق والسرد.
الرواية أقرب إلى مناجاة طويلة مع رجل رحل قبل نصف قرن، يخاطبه كأنه يسمع، يراجع معه مواطن الخلل فى تجربته، التى أفضت إلى الانقضاض عليها، ينقده بقسوة أحيانًا ويعاتبه أحيانًا، ولا يخفى محبته وتماهيه مع عذابه الإنسانى فى مرضه، الذى لم يتح له فرصة التقاط أنفاس تحت وطأة تدافع الحوادث والأزمات.
العمل الروائى يكتسب قيمته من فنيته وما ينطوى عليه من فلسفة حياة، لا هو موضوع فى التحليل السياسى ولا تأريخ لمرحلة، غير أن التاريخ بصراعاته وتناقضاته مادة ثرية للدراما.
عندما أدخل السجن فى الثانية والعشرين من عمره، كان يدرس القانون فى كلية الحقوق، ويعمل موظفا بمكتب ترجمة حتى يواصل تعليمه.
رأى بعينيه الوقائع المشينة لمقتل المفكر اليسارى «شهدى عطية الشافعى» تحت الضرب المبرح فى معتقل «أبو زعبل» يوم (١٧) يونيو (١٩٦٠).
استقرت التجربة فى وجدانه بكل آلامها، غير أنها لم تمنعه من أن يرى عمق التحولات فى مجتمعه ولا تناقضات المشروع مع نظامه.
وهو يستعيد مع «عبدالناصر» فى روايته التخيلية ما حدث داخل المعتقلات من حوارات وتفاعلات أجاب عن السؤال الذى يستغرب دفاعه عمن سجنه:
«ما قمت به من إجراءات تجاوزت ما كانوا يطالبون به وفاقت فى أحيان كثيرة أقصى أحلامهم بل ولم تكن قد خطرت لهم ببال، من أول تأميم الشركات الكبرى وإشراك العمال فى إدارتها إلى تخفيض إيجارات المساكن ومنع الفصل التعسفى للعمال فضلا عن تصديك بصلابة للأطماع الاستعمارية والمخططات الرجعية مما دعم اتجاه بعضهم (حدتو ــ بالتحديد) إلى اعتبارك من الوافدين الجدد إلى معسكر الاشتراكية المتنامى».
فى المناجاة مع «عبدالناصر» تبنى «صنع الله» رؤية «حدتو» مع شىء من المراجعة، انتقد وعاتب، لكنه فى آخر جملة من روايته لخص قسوة الدراما فى تجربته وعمق أمله فى المستقبل: «خذلت نفسك وخذلتنا.. ثم ذهبت، وذهبت معك مقدرات الأمة وآمالها.. إلى حين»!.
فى هذه العبارة بالذات تتلخص مشاعره ورهاناته معا.
فى روايته (1967)، تبدت استقامته السياسية على نحو لا يقبل الطعن.
هكذا وصف بالحرف تظاهرات (9) و(10) يونيو:
«غادرت الجريدة إلى الشارع وكان الظلام ينتشر بسرعة والناس تجرى فى كل اتجاه وهم يصيحون ويهتفون. ثم أخذوا يشكلون اتجاهًا واحدًا إلى مصر الجديدة. وهم يرددون فى جنون اسم ناصر. وظهرت بعض الأنوار فى المحلات والمنازل ثم دوت أصوات مدافع فوق رءوسنا فساد الظلام من جديد».
كان الروائى الشاب فى ذلك الوقت مطاردًا سياسيًا.
خرج من المعتقل عام (١٩٦٤) بعد أن قضى خلف جدرانه خمس سنوات كاملة.
لم يكن هناك ما يدعوه إلى أن يُضفى على «تمثيلية» مصطنعة طابع الحقيقة المصدقة.
أصغى إلى صوت الشارع فى لحظة مفصلية من تاريخ مصر، ونقله بأمانه كاملة فى نصه الروائى.
فى عام (2003) تأكدت من جديد قوته الأخلاقية حين رفض جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائى العربى، التى يمنحها المجلس الأعلى للثقافة.
كان المشهد مثيرًا، فقد جرى الرفض أثناء الإعلان عن الجائزة.
فيما كان يعتقد أن الفائز سوف يلقى كلمة شكر لمانحى الجائزة، أعلن رفضه الحصول عليها مدينا السلطة التى منحتها.
كانت تلك رسالة غضب أقرب إلى «وثيقة أخيرة» قبل إسدال الستار.
أسبابه المعلنة كلها سياسية تنطق بما يجيش فى عقول وقلوب المصريين.
لم يرفض الجائزة لأنها مصرية، بل لأن وجودنا الإنسانى فى محنة، ووجودنا السياسى كارثة، ووجودنا كوطن وأمة فى خطر.
مرة أخرى، وفى زمن آخر، شارك باعتصام المثقفين فى مبنى وزارة الثقافة قبيل (30) يونيو (2013).
تصدر المشهد روائيان كبيران «بهاء طاهر» و«صنع الله إبراهيم»، وتدفق عليه فنانون ومبدعون من جميع الأجيال والاتجاهات الوطنية، طلبا للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
بعده حدث انكفاء دون التفات يذكر إلى خطورته على مناعة البلد وقدرته على الإبداع وبناء تصورات تساعد على تأسيس مشروع ثقافى له طاقة الالتحاق بعصره.
برحيله الحزين خسرت مصر ركنا أصيلا فى قوتها الناعمة، ومعنى أن يكون المثقف ضمير بلده لا بوق سلطان.