وقفت أتأمل ما كتبه ورسمه بابلو بيكاسو داخل المنزل الذى ولد فيه عام 1881 بمدينة مالقة (مالاجا-إسبانيا)، بيت أنيق لعائلة ميسورة يحمل رقم 15 ويطل على ساحة عامة (Plaza de la Merced) بوسط المدينة يرجع تاريخها للعصر الرومانى، عاش فيه السنوات الأولى من طفولته حتى الثامنة من عمره تقريبا. لفت انتباهى عمل فنى وقصيدة اختار لهما عنوان «حلم وكذب فرانكو» وقد أبدعهما عام 1937 للتنديد بديكتاتورية الجنرال فرانكو الذى حكم إسبانيا من 1939 إلى 1975، بعد أن أعلن انقلابه على سلطة الجمهورية الثانية عام 1936 واندلعت الحرب الأهلية لمدة ثلاث سنوات. بيكاسو كان مقيما بالعاصمة الفرنسية باريس حينها ومخالطا للعديد من الشعراء الكبار مثل بول إيلوار وجان كوكتو وأبولينير، ومنذ ذلك الوقت، تحديدا عام 1935، بدأنا نعرف قصائده الأولى وتوالت مخطوطاته حتى العام 1959، إذ كتب حوالى 350 قصيدة وثلاث مسرحيات وهى: «الرغبة التى قبض عليها من الذيل»، و«الفتيات الأربع الصغيرات»، و«دفن الكونت دورغاز» التى استلهم عنوانها من قصيدة طويلة سريالية نشرها لوجريكو.
كلمات بيكاسو ورسوماته تجد صدى مختلفا لدى الزائر، هذه الأيام، بسبب ما يجرى من حولنا. مشهد الأمهات المكلومات والأطفال الذين يبكون جوعا بعد أن فقدوا ذويهم ظلت تلاحقنى كظلى، كما لازمت الفنان فى العديد من لوحاته لاحقا. يستحضر نحيب ضحايا الحروب والدمار من خلال الشعر والرسم فيعدد: «صرخات الأطفال صرخات النساء، صرخات الطيور صرخات الزهور (...) وصرخات مطر الطيور الذى يغمر البحر وينخر العظم، فتكسر أسنانه وهو يقضم القطن». كذلك هو الحال بالنسبة لسخريته من الطغاة الذين يشتركون عادة فى الأحلام والأكاذيب، فهم يسعون إلى فرض سلطتهم المطلقة وتحقيق مجدهم الشخصى من خلال الألاعيب والدعاية السياسية والعنف وتشويه الخصوم والمعارضين والإمعان فى إظهار تفوقهم أحيانا بواسطة مشروعات عملاقة معتقدين دائما أنهم على صواب وأن رؤيتهم نافذة. وقد قرر بيكاسو فضح كل ذلك دون مواربة، إيمانا منه بدور الفنان والمثقف فى مثل هذه الظروف الحالكة.
• • •
يصاحب النص أعمال حفر طباعى على ورق، تقترب من أسلوب الرسوم المصورة، ويصل عددها إلى 18، يظهر فيها فرانكو فى مواقف ومواضع مختلفة، تارة وهو يمتطى جواده ويشهر سيفه، وتارة وهو محاط بأسلاك شائكة أو يأكل حصانا ميتا، وأحيانا فى هيئة وحش مضحك أو على ظهر خنزير، إلى ما غير ذلك من المشاهد التى لا تخلو من السخرية، ومن ضمنها 4 رسومات ستصبح فيما بعد جزءا من لوحة «جرنيكا» الشهيرة التى تصور ويلات الحروب ومآسيها وهى: «امرأة تبكى»، «امرأة تهرب من منزل محترق تحمل طفلا»، «امرأة ومهد طفل»، «امرأة مصابة بسهم».
تضافر النص والرسم لتسجيل مواقفه المناهضة للحرب ولفرانكو، كانت أول سابقة من نوعها يعلن فيها عن وجهة نظره السياسية بشكل مباشر، وبالتالى لم تطأ قدمه أرض بلاده إلى وفاته فى قرية موجان جنوب فرنسا، فلم يكن مرحبا به هناك على المستوى الرسمى، حتى أنه لم يودع والدته قبل وفاتها ولم يحضر جنازتها. وظلت الأندلس تسكن أفكاره وتظهر فى لوحاته وكتاباته جميعا من خلال موضوعات متكررة مثل مصارعة الثيران والحرب والغناء والرقص الفولكلورى والروائح والطعام وذكريات الطفولة، حتى وإن لم يعد إلى ذلك المنزل المطل على ساحة «الميرسيد» سوى لحضور احتفالات رأس السنة عام 1900 مع الأهل والأصدقاء.
العلاقة الوطيدة بين الرسم والكتابة لديه تظهر جليا من خلال هذا العمل، ونلاحظ أثناء تجولنا فى عالمه أن بعض القصائد تحولت لاحقا إلى لوحات كاملة. ونكتشف أيضا أن الفنان التشكيلى الشهير الذى يحظى بمتاحف كثيرة حول العالم تفرغ فى فترات من حياته لنظم الشعر، وهو ملمح لم تتم دراسته باستفاضة، فقد انغمس فى الكتابة خلال منتصف الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات حين انفصل عن زوجته الأولى وارتبط بصديقة أخرى كانت موديلا فنيا وانتقل من منزله ليعيش حياة بوهيمية ويعبر عن مشاعره بالكلمات، كما توقف عن الرسم وهو فى الثالثة والخمسين من عمره وفضل التعبير عن أفكاره شعرا.
• • •
كان يكتب بالفرنسية أو الإسبانية على كل ما يقع تحت يديه: أظرف خطابات، أوراق صحية، قصصات جرائد... يكتب ويعدل وينقح ويعيد الصياغة، يمزج أحيانا الرسومات بالأشعار، ويستخدم الألوان قليلا لينظم كلمات تتأرجح بين الشعر والنثر... يتعامل مع المساحة المخصصة للكتابة بشكل بصرى، ويحرص على تدوين التاريخ أعلى الصفحة، تماما كما يفعل عند تذييل اللوحة، لذا تعد مخطوطاته مادة أرشيفية دسمة لمراحله الفنية والحياة العامة فى زمنه. أما رسومات «حلم وكذب فرانكو» تحديدا فهى تشى بتأثره بالقصص المصورة التى أعجب بها وحرص على اقتنائها منذ الصغر، كما ورث عن والده الذى كان رساما موهوبا هو الآخر ولعه بحلبة الثيران ومصارعاتهم ومحاكاة الحمام.
منزل ساحة الميرسيد، رغم أنه لم يعش فيه طويلا، إلا أن الأجواء والمتحف المقام هناك يجعلنا نرى الفنان والشاعر كما لم نره من قبل، تحت إشراف مؤسسة بيكاسو التى دشنتها الحكومة عام 1988، وقبل عشر سنوات ضمت إليها بيتا آخر يقع على مقربة من المنزل رقم 15 لتقام فيه المعارض المؤقتة، وهذه المرة كانت اللوحات لفنان إسبانى آخر معاصر أراد أن يعيد قراءة لوحة «جرنيكا» وتفصيلها وإلقاء الضوء على موقف بيكاسو السياسى، وخُصصت رسوم الدخول لخدمة اللاجئين. بعد انتهاء الزيارة، جلست لأستريح قليلا فى الحديقة التى تتوسط الميدان وكلمات بيكاسو، الشاعر هذه المرة، تأخذنى بعيدا وسط الكثير من الأحلام والأكاذيب.