مهندسو الفوضى - سمير العيطة - بوابة الشروق
الإثنين 18 أغسطس 2025 1:14 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

مهندسو الفوضى

نشر فى : الأحد 17 أغسطس 2025 - 6:45 م | آخر تحديث : الأحد 17 أغسطس 2025 - 6:45 م

«لم تعُد السياسة اليوم مجرد مسألة أفكار، بل أصبحت حربا عاطفية مشفرة بلغة الخوارزميات». هكذا عبر الكاتب جيوليانو دا إمبولى عن تلاعب «مهندسى الفوضى» (وهذا عنوان كتابه) بوسائل التواصل الاجتماعى الرقمية وبالمعطيات الشخصية لتغيير معنى السياسة وتحويلها لدفع الشعبوية إلى الصدارة وإثارة المشاعر حول العالم. هؤلاء «المهندسون» يعملون وراء الستار كى يثيروا المخاوف ويحولوا الإحباطات الشعبيّة إلى انتصارات كاذبة، حتى فى ظل النظم الانتخابية. من ستيف بانون الذى كان وراء انتخاب دونالد ترامب فى المرة الأولى، إلى جيانبارتو كازاليجيو الذى كان وراء انتصار المهرج بيبى غريلو وحركة النجوم الخمس التى أنشأها فى إيطاليا.

بعد أن فضح آليّات استخدام الإنترنت، ذهب دا إمبولى أبعد فى كتاب «زمن الحيوانات المفترسة»، ويقصد القادة السياسيين الجدد، الذين لا يهدفون الإقناع، بل الإبهار بالحركات الدرامية المثيرة والكذب الفاقع والتقنيات المبتكرة، وحيث يستخدمون المنصات الرقميّة والذكاء الاصطناعى وخوارزمياتها، عبر «مهندسى الفوضى» وشركاتهم التقنيّة، لتشكيل المشاعر والسلوكيات الجماعية بغية فرض سلطة لا تهدف للحصول على الإجماع بل بالأحرى تهدف إلى دفع التطرّف. وبحيث تبقى المجتمعات والدول، كمؤسّسات، عاجزة عن مواجهة «ذكاء» السلطة «الاصطناعى» التى يقيمها هؤلاء. قد تأخذ قوّة آليّات «هندسة الفوضى» وفعاليتها المجتمعية إلى الإحباط، إلا أن دا إمبولى يدعو إلى اليقظة والوعى ورفض الانبهار والحفاظ على التفكير النقدى والسياسى العملى فى مواجهة تسارع الوسائل التكنولوجية واستخداماتها السلطويّة.

لم يترجَم هذان الكتابان إلى العربيّة بعد، رغم أنّهمّا يُلقيان إضاءات مهمّة على تصرّفات بنيامين نتنياهو وكيفيّة إدارة حرب إبادته ضدّ الفلسطينيين ومشروعه لتغيير المنطقة وتشييد «إسرائيل الكبرى»، سواء تجاه الرأى العام الإسرائيلى أو العربى على السواء، وكذلك تجاه الدول الفاعلة التى لا تتحرّك لإيقاف جنونه. فهو يثير المخاوف بين الإسرائيليين أنّه وحده قادر على إنقاذهم. ويثير المخاوف والانقسامات والإحباطات ضمن المجتمعات العربيّة. مخاوف ليس فقط من جبروته وقدرات جيشه على سحق من يريد بدعمٍ غير محدود من الولايات المتحدة، بل أيضا مخاوف داخل هذه المجتمعات بين الهويّات المتعدّدة، الواحدة بمواجهة الأخرى. ويعزّز هذا الإحباط أى مشروع لمقاومته أو للحدّ من طغيانه، كما يستخدم الانبهار بالتقنيّات التى يستخدمها فى حروبه وبوقاحة فى خطابه المفضوح.

عند قراءة هذين الكتابين، يُمكِن لأى متابع لمدى «فوضى» الشرذمة وإلغاء السياسة عربيا على وسائل التواصل الاجتماعى، أن يتساءل عمّن وراء هذا التطرف فى التفرقة، خاصة أنه يذهب أبعد بكثير فى المهاترات من الفضائيات العربية التى تبقى تابعة لدول بعينها ولسياساتها وتتحمل مسئولية عما تبثه. هل وظّف نتنياهو وحده «مهندسى الشرذمة» أم أنّ السلطات القائمة فى بعض البلدان العربيّة توظّف أيضا بدورها «مهندسى فوضى»؟!

• • •

لعبت وسائل التواصل الاجتماعى دورا رئيسيا فى حشد انتفاضات ما يسمى «الربيع العربى». ولكن تم أيضا استخدام هذه الوسائل بكثافة لتحويل هذه الانتفاضات إلى حروب أهلية وطائفية. أُطلِقَت جيوشٌ الكترونيّة من قبل جميع الأطراف الداخلية والخارجية كى تبتعد حركة المجتمع عن أهداف الحرية والمواطنة والكرامة نحو التطرّف العبثى… الذى استطال ولا أفق لها. ولافتٌ أنّ كلّ محاولةٍ سياسيّة كانت تظهر لإيقاف الاقتتال الداخلى والصراع الإقليمى بالوكالة كانت تواجه بحملات ممنهجة لشيطنة القائمين على هذه المحاولات بغية الانتقال إلى مستوى أعلى من التطرّف العبثى.

حدث هذا مثلا عند محاولة فرض «مراقبين عرب» ثمّ «مراقبين دوليين» فى بداية الصراع السورى عام 2012. وكذلك عندما دُعى إلى «مؤتمر وطنى» ضمن مبادرة المبعوث الأممى كوفى عنان ووضع وثيقة «العهد الوطنى». تمّت شيطنة كلّ القائمين على هذه المحاولات لدفع الصراع إلى السلاح والتطرّف... ولسنين طوال.

وحدث هذا أيضا عندما تمّت شيطنة مقاومة غزّة والفلسطينيين وتبرير الإبادة الجماعيّة التى تقوم بها إسرائيل وإيقاف أيّة محاولة لتضامن اجتماعى عربى واسع فى مواجهة التطرّف الصهيونى الذى يبدو أن لا حدود لإجرامه. كما يحدث هذا منذ زمن طويل فى لبنان، حيث تحيى الجيوش الالكترونية لأمراء الحرب الأهليّة الاصطفافات الطائفيّة دوما لإبقاء مؤسّسة الدولة ضعيفة مقابلهم. وترمى الدول المتلاعبة بمصير لبنان، خاصّة إسرائيل، مزيداً من «الزيت على هذه النار» كى يبقى لبنان دوما... دون سيادة واستقلاليّة، بل حتى دون أدنى حد من الرعاية لمواطنيه.

أما فى سوريا، فحتى بعد أن فرح الجميع بسقوط الأسد ومع الأمل بانتهاء العقوبات وبداية التعافى والإعمار، لعب «مهندسو الفوضى» دورا أساسيّا لتوجيه الأمور بعيدا عن مصالحة وطنيّة شاملة تعيد توحيد البلاد وبناء دولة للجميع والعمل على تضميد جراحات المجتمع، دون استبداد. ويستغلّ «مهندسو فوضى» جراحات الصراع الطويل، ليُسعِروا تطرّفاً عبثيّا يأخذ إلى صراعات تقوّض الآمال. هذا «كافرٌ»، وهذا «فلول»، وهذا «عميل»، وهذا «انفصالى»… وتنفلت جيوشهم كلّما ظهر امتعاض أو نقد لسياسات السلطات الحالية أو لانتهاكات بحقّ فئات من المجتمع. كى يتحوّل الانتباه عن الدور المفترض لأيّة سلطة مسئولة أنّها تسعى لحماية المجتمع والدولة وأنّها يجب أن تبقى دوما، خاصّة فى مرحلة حساسة مثل التى تمرّ فيها البلاد اليوم، قابلة للنقد والمحاسبة.

• • •

لافتٌ أن الشعارات التى يتلاعب بها «مهندسو الفوضى» ومن ورائهم تذهب دوماً لإحياء ماضٍ مجيد افتراضى، بدل وضع حلمٍ «تقدّمى» للمجتمع وأسسٍ وآليّات لتحقيقه، مهما كانت الصعوبات والعقبات أمام ذلك. أيضا من اللافت أن «مهندسى الفوضى» يذهبون إلى تشكيك المجتمع فى هويّته الجامعة، كى لا تبقى سوى طوائف وإثنيّات وعشائر. ولافتٌ أيضاً أنّ الفوضى التى يتمّ هندستها تتمّ معالجتها بمشهديّات مبالغة لاحتواء تفجّرها. مشهديات لا تأخذ بعد فتور بهرجتها إلا إلى إحباطات جديدة لأنّها كما الفوضى لا توصِل إلى أى برّ. ولا بدّ من تصعيد جديد فى «هندسة الفوضى» لاحتواء هذه الإحباطات. 

ما يحدث فى المشرق العربى استثنائى بكلّ المعايير. إذ ليست الحدود هى أصلاً التى يتمّ العمل على تغييرها، بل بالتحديد هويّة المجتمعات ومؤسّسات الدول التى أقامتها هذه المجتمعات منذ أكثر من مئة سنة. وليس سهلاً بروز الطرح الوطنى العقلانى، للحفاظ على وحدة هذه المجتمعات ومؤسسات دولها، لا أمام فائض القوّة الإسرائيليّة، ولا فى مواجهة «مهندسى الفوضى» ومن ورائهم.

لكنّ المجتمعات ما زالت حيّة. ففى فلسطين، أسّست بطولة صمود الفلسطينيين لتغييرٍ فى نظرة العالم كلّه لفلسطين، لا بدّ لهذا أن يأخذ مداه. والمجتمع اللبنانى يعرف منذ زمن طويل كيف يصون حريّاته ويقاوم أيّة هيمنة كى يعيش يوما فى دولة تحمى كلّ مجتمعه. والسوريّون يعرفون جيّدا كيف تضامنوا سوية فى زمن الاستبداد والعقوبات، وإلى أى صراع عبثى أخذتهم «الذئاب المفترسة».

من أنجع الوسائل لمواجهة ألاعيب «مهندسى الفوضى»… السُخرية. السخرية من محاولات شرذمة المجتمع. والسخرية من فائض قوّة «الذئاب». والسخرية من استجرار الماضى المفترض. والسخرية من المشهدية المبالغة. وبالمناسبة لدى حمص فى سوريا باع طويل فى هذا المجال. سخرية لإبقاء اليقظة والوعى والحفاظ على التفكير النقدى والسياسى العملى.

 

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات