ارتجـــــــــــــــــال - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ارتجـــــــــــــــــال

نشر فى : الأحد 26 أكتوبر 2014 - 8:25 ص | آخر تحديث : الأحد 26 أكتوبر 2014 - 12:03 م

يفرض قواعده على جميع مناحى الحياة، فيحولها إلى سلسلة من التصرفات العفوية: إجراءات اقتصادية وسياسات، إلى ما غير ذلك من الأشياء التى لا تحمد عقباها والتى نعانى منها يوميا، لكن الحالة الوحيدة التى لا نشعر فيها بالتخبط بل نقول: هل من مزيد؟ هى حالة الارتجال الموسيقى المبدع، إذ تتحقق المتعة للعازفين والجمهور معا ويصل كلاهما لدرجة السلطنة.. نشوة ما بعدها نشوة نتمنى أن تدوم. ينتقل المؤدى بين المقامات، يقتنص بخبرته اللحظة المناسبة للانتقال، لكى يصل هو والسامعون إلى الطرب، وكلما تجاوز الأداء الزمنى المدة المحددة مسبقا وترك الموسيقيون لخيالهم العنان اكتشفنا جميع الاحتمالات الفنية الكامنة داخل العمل.

هكذا تتبدل مثلا قصة «الحلواية الواقفة على المراية» من يوم إلى يوم وفقا لمزاج الموسيقيين: مارسيل، ورامى، وبشار خليفة. يجىء الغيم ويهطل المطر ويختفى القمر. يدق مارسيل عوده فتنهمر الحواديت، ويصبح لدينا نسخة مختلفة من الأغنية. تطل علينا «الحلواية» بشكل متجدد، اختاره مارسيل خليفة وابناه فى إطار مشروعهم الذى بدأ قبل سنوات قليلة، تحت عنوان «عائلة فنية»، مع صياغة ومقطوعات جديدة يحضر خلالها العود وارتجالات الإيقاعات الحديثة والبيانو، بل والموسيقى الإلكترونية.

بعيدا عن ضغط الجمهور وتقييمه للتجربة بين جديد وقديم مارسيل خليفة، ما يعنينا هنا هو الحوار الدائر بين الموسيقيين على خشبة المسرح: كيف يبدو الانسجام هائلا وكيف يجر أحدهم الآخر إلى طريقه؟ ما الذى يراه الأب حين يغلق عينيه فى خشوع كالعادة؟ وما الذى يدفع رامى فى لحظة معينة لأن يضرب البيانو بعنف أو يداعب أوتاره على نحو طاغ؟ ما الذى تفيض به النظرة من معان لتقود الحوار إلى حيث لا ندرى نحن؟

•••

هذه العائلة تعزف بدلا من أن تتكلم، الحديث يتحول إلى طنين وإيقاع، وعندما يلتقى الثلاثى على المسرح يصنعون تراثهم الخاص، محملين بثقافة موسيقية واسعة وموهبة متدفقة، يتم تفكيك ما هو قائم وإعادة صياغته فى لهو متصل، حتى لا تظل الأشياء على ما هى عليه. يعبثون بها على نحو يجمع بين الضجة والمنطق وموسيقى الحياة، ويأخذ الولدان الأب أكثر فأكثر إلى سكة تقاسيم الجاز والإيقاع الإلكترونى الذى يحبان.

شغل هذا التواطؤ بين العازفين على المسرح تفكير العديد من الفنانين التشكيليين مثل إيهاب شاكر أو جورج البهجورى، فقد حاولا رصد الانصهار والتبارى الذى تشهدهما الحفلات، حين ينصهر العازف ويصبح هو وآلته الموسيقية كتلة واحدة، ويخرج من مخزون ذاكرته ما يمارس به نوعا من التنويم المغناطيسى على المستمع ليجبر هذا الأخير على تعقب ما يتم طرحه على أمل اكتشاف المزيد، فالارتجال لا يأتى من العدم، سواء كنا نتحدث عن التقاسيم والارتجالات المرتبطة بمزاج الشرقيين أو بروح موسيقى الجاز القائمة على التفاعل بين العازفين.

•••

«ثلاثى خليفة» وما قدمه مؤخرا فى حفل القاهرة هو مجرد نموذج لما يحدث حين يعتلى خشبة المسرح عازفون مشاغبون على درجة عالية من التواطؤ. تواصل موسيقى يحدق خارج نطاق اللغة المحكية، وهو ما رصدته دراسة قام بها فريق باحثين من جامعة جون هوبكنز فى بالتيمور. وجد هؤلاء بعد اختبار أجروه على عشرة عازفين بارعين لآلة البيانو أن باحات الدماغ التى يتم تنشيطها خلال الارتجال هى نفسها التى يستخدمها الإنسان لتفسير اللغة وبالطريقة ذاتها. أى أن الدماغ يستخدم باحاته القواعدية لمعالجة التواصل بشكل عام سواء كان ذلك التواصل من خلال اللغة المنطوقة أو الموسيقى. هذا على الأقل هو ما أكده مسح الرنين المغناطيسى، عندما قضى كل عازف عشر دقائق داخل آلة التصوير بالرنين أثناء مشاركته بالارتجال الموسيقى. وبالتالى نحن نشهد بالفعل على المسرح «محادثات موسيقية عفوية» بين العازفين فى لحظات الارتجال، يتكلمون فيما بينهم ونحن نتابع الحوار بشغف أو باستغراب.. ينسجمون أحيانا ويختلفون أحيانا، لكنهم فى حالة حوار دائم، لا ينقطع الوصل على المسرح.. وهذا بالضبط ما يصبو إليه «الثلاثى خليفة»، فالأب وأولاده دائما على سفر، لا يترك لهم الترحال فرصة كافية للتفاعل، ومشروع «العائلة الفنية» هو مجرد لقاء وأحاديث على المسرح. أحاديث تدور بين موهوبين مجتهدين على دراية تامة بما يفعلون، لذا نستمتع.. فهم يعرفون جيدا أصول اللعبة ويشركوننا فيها.. أما باقى من يمارسون الارتجال فى حياتنا اليومية فهم لا يجيدون لعبة المرايا ولا يعرفون إلى أين يتم استدراج الجماهير... ليت الارتجال يظل على خشبة المسرح.

التعليقات