(أنت خطيبة حياتي).. قصة حب مصرية كتبتها جزائرية - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 1:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(أنت خطيبة حياتي).. قصة حب مصرية كتبتها جزائرية

نشر فى : الخميس 26 نوفمبر 2009 - 9:31 ص | آخر تحديث : الخميس 26 نوفمبر 2009 - 9:31 ص

 فى الساعة الثانية بعد منتصف ليلة من ليالى 1939، وبعد أربع ساعات كاملة من الشدو فى أحد مسارح القاهرة، كانت أم كلثوم قد أنست جمهورها كل شىء عداها، تعالت صيحات الإعجاب ثم هدأت، لكن صوتا مفاجئا مزق سكون الليل ليلحق بها قبل أن تذهب : «أنتِ خطيبة حياتى». كان صوت أحمد الفحام الذى عاد ليلتها إلى بيته المتواضع فى باب زويلة، تغمره سعادة من باح بحبه لمحبوبته أخيرا، لم يكن ينتظر منها ردا، فيكفى أنها سمعته!

كان العاشق فحاما يغطيه الرماد الأسود معظم الوقت، لكنه تحت سواد الرماد يخبئ قلبا ورديا مرهفا، مفعما بحب جارف لأم كلثوم، إلى حد استعداده لأن يقدم لها عينيه !

فعندما تضخمت غدتها الدرقية، وعانت عيناها من بعض الجحوظ والتهالك، انسحق قلب العاشق بين أضلعه، ولأنه لم يكن يقرأ ولا يكتب، فقد استعان بزميل له يفك الخط، وفى مقهى الفحامين باح لزميله: «اسمع يامولود.. سيدة حياتى مريضة وعيناها متعَبتان، أما أنا فبصرى حاد، ولم أعد أرجو من الحياة غير إشارة منها، ولا أملك دليلا على ما أحمله لها من حب إلا إهداءها عينى، سيقتلع الأطباء عينىَّ ويزرعونهما لها»!

استغرب «مولود» حديث صديقه، لكنه أمام إصراره وصدق نبرته، صاغ ما أراده فى حدود ما يعرفه من كلمات، ولأنهما لم يكونا يعرفان عنوانها، لم يحمل المظروف غير كلمتين «أم كلثوم ــ القاهرة» وكان ذلك كافيا لوصول الخطاب إليها.

هذا الخطاب المدون على ورق ردىء مبقع، والمكتوب بسذاجة وقلة مهارة، أصاب أم كلثوم بانفعال شديد.. رجل مجهول فقير وغير متعلم يقدم لها عينيه، فكتبت له : «أنا لا أعرفك يا أحمد.. ولكننى أشعر منذ وصول خطابك بأننى شُفيت.. لن آخذ منك بفضل الله عينيك ولكننى سأستمد منك الإرادة والأمل.. سأذهب للعلاج وسأُشفى بإذن الله.. وإذا حضرت حفلى القادم فأنا على يقين أننى سأستدل عليك. أم كلثوم». وكتبت العنوان «أحمد شركة الفحم»، لأنه نسى أن يكتب فى خطابه اسم والده!

كان أحمد الفحام يدخر من قوت يومه ليحوز بطاقة يحضر بها الحفل الشهرى لكوكب الشرق، وكان يتحايل ليجلس فى الصفوف الأولى، فيدّعى أنه أعمى، ويشق طريقه متوكئا على عصا وهو ينادى : «راعوا الكفيف.. راعوا الكفيف»، وكان يفوز بحلم الجلوس أمامها وهى تشدو، وعند نهاية شدوها فى أول حفلة بعد عودتها من رحلة العلاج فى أمريكا، تملكه الوجد، فقفز صائحا مفتونا، ناسيا حيلة العمى، ولعلها لاحظت ذلك، لعلها عرفته، لأنه رآها تبتسم له، أو خُيِّل له ذلك.

فى نور هذه الابتسامة، وعلى رحيق شدوها، عاش أحمد الفحام عمره، وكانت أم كلثوم هى معنى هذا العمر، تزوج وأنجب وصار له أحفاد، ولم يفارق خطيبة حياته، يجاهد ليتابع خطوها من بعيد، يتقصى أخبارها ممن يقرأون الصحف، ويملأ جدران غرفته بصورها المقصوصة من المجلات والجرائد، كان يكبر ولا يشعر بأنها مثله تكبر، وحتى لايفتقد صوتها الحبيب اشترى مذياعا صغيرا لم يكن ليفارقه لحظة.

عندما علم بمرضها الأخير بعد قرابة نصف قرن من الحب، وكان فى السبعين، يواظب على الصلاة، وله زوجة وبنات وأحفاد يعلمون جميعا بقصة حبه، دعا الله أن يأخذ من عمره ويمد فى عمرها، لكن حالتها الصحية تفاقمت، وقرر أن يكون قريبا منها، حزم بعض حاجياته فى لفة ووضع بها مذياعه الصغير، وترك لزوجته كل مدخراته تحت حصيرة الغرفة، وتوجه من باب زويلة إلى الزمالك مشيا على الأقدام حتى وصل إلى رقم 5 شارع أبو الفدا. كانت هناك سيارات شرطة تمنع وصول الآلاف إلى بوابة الفيللا، فأوى أحمد إلى ظل شجرة قريبة، وأقام على الطوى، يرتشف طاقة الحياة من النور الذى يلمحه مضاء فى نافذة غرفة تأكد أنها غرفتها.

أربعة أيام بلياليها الطويلة عاش أحمد الفحام تحت تلك الشجرة، ولعله غفا من الإنهاك والجوع، فقد استيقظ منتفضا على أصوات تخلع القلب، أبواق سيارات نجدة، وعربات إسعاف تُسرِع، سمع أنها أصيبت بنزيف فى المخ، وأنهم ينقلونها إلى مستشفى المعادى، فكانت رحلته التالية مشيا على الأقدام أيضا، وأمام مستشفى المعادى أوى إلى ظل شجرة أُخرى.

جاءت ضربة الخبر الصاعق فى الساعة الثانية بعد منتصف ليلة 3 فبراير 1975، وفتح عينيه من إغماءة عميقة ليجد نفسه على سرير فى مستشفى المعادى وأمامه ممرضة يعتصرها البكاء، أخبرته أنهم وجدوه على وشك الموت أمام المستشفى فالتقطوه وقام الأطباء بإنقاذه، ولم تكن تهمّه نفسه، المهم هى، هى، خطيبة عمره، يريد أن يراها، يكلمها ولو من بعيد، وأخبروه أنهم غسّلوها بماء الورد وعطروا كفنها بالمسك، وستُشيّع من مسجد عمر مكرم.

رحلة شاقة جديدة على القدمين المُسِنَين، من المعادى إلى التحرير هرولة هذه المرة، فقد كان مُصرًّا أن يلحق بها حتى لو فقد حياته، وماذا تعنى بعدها حياته، حاول مرات أن يخترق كردونات الحراسة وطوابير الجنود ومواكب الكبار، لكنه لم ينجح، ولم ييأس، فقط، عندما زحفت أمواج البشر فى الميدان، وصار النعش يطير فوق الهامات والأيادى والقلوب، نجح أحمد الفحام فى الوصول إلى خطيبة قلبه، تشبث بالنعش يحملها مقاوما طوفان المتدافعين لحملها، وكانت روحه ودموعه تناجيها، وهو موقن أنها تسمع نجواه.

إنها قصة فرعية فى ثنايا كتاب كبير عنوانه «أم كلثوم كوكب الشرق»، كتبته بين الجزائر وباريس والقاهرة، بحب وصدق، الجزائرية إيزابيل صيام بوديس، دليل ماثل على أن هناك من الجزائريين من يحبنا إلى هذا الحد، وسيظل يحبنا، لأنه يحب فينا أم كلثوم وطه حسين وجمال عبد الناصر وعبد الحليم وعبد الوهاب ونجيب محفوظ وعبد الباسط عبد الصمد ويوسف إدريس ومحمد حسنين هيكل والشيخ الغزالى وأحمد بهاء الدين وفاتن حمامة وأحمد زكى. يحب مصر الكبيرة بمثل هذه القامات، لا المتضائلة بهستيريا الصبية وهياج الغوغاء وأبواق الجهالة والخِفّة.

ملحوظة : لعل هذا هو الكتاب الوحيد الذى قدم له الرئيس مبارك بعدة سطور، بتقدير وود، وهو من منشورات المركز القومى للترجمة.

وعيدكم سعيد.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .