بكلام مرسل واتهامات منسوبة للمجهول يطالعنا المجلس العسكرى فى بيان إثر آخر بأن هناك مخططا لإسقاط المؤسسة العسكرية وتقويض الدولة فى ٢٥ يناير المقبل. لا يصح أصلا أن تصدر مثل تلك الاتهامات الخطيرة من سلطة دولة دون أن تكشف للرأى العام حقيقة القوى التى تخطط لحرق المنشآت العامة فى الذكرى الأولى لأكثر الثورات سلمية فى التاريخ الحديث، وتسعى لجر قوات الجيش إلى مواجهات عنيفة فى هذا اليوم تفضى إلى إسقاطها على النحو الذى أسقطت به قوات الأمن قبل عام، غير أن الاتهامات تواترت بلا دليل عليها، وعلت نبرتها بلا مصداقية تصحبها.
وهناك فرضيتان لتفسير تهافت الخطاب السياسى والإعلامى للمجلس العسكرى فى قضية على هذه الدرجة من الخطورة.
أولاهما، أن لدى العسكرى معلومات مؤكدة عن مخططات من مثل هذا النوع، وأن جهات دولية وإقليمية تحاول أن تستغل أجواء الاضطراب السياسى فى مصر للوقيعة بين الشعب وجيشه، وتقويض ما تبقى متماسكا من مؤسسات الدولة المصرية بما يدفعها إلى حمامات دم ترافقها فوضى عارمة قد تطول.
وهذه الفرضية يستحيل استبعادها، فمصر دولة محورية فى محيطها العربى، ومن مصلحة الاستراتيجيات الغربية فى المنطقة وضع سقف لدورها الإقليمى بعد ثورتها الجديدة، وإرباك أوضاعها الداخلية بما يشغلها عن مصالحها وأدوارها فى عالمها العربى، الذى يعاد رسم خرائطه السياسية من جديد فى غيابها.
والسؤال هنا يطرح نفسه: ما الذى فعله العسكرى لدرء تلك المخططات عن مصر؟. عبارات متلعثمة عن جهات أجنبية غامضة لها أذرعها المحلية، كلام عام قد يطعن عليه بدعوى أنه يسوغ قتل المتظاهرين وسحل الفتيات. أحيانا يقال فى الكواليس: «نقصد أمريكا وإسرائيل، ولكننا لا نستطيع فى ظروفنا الحالية أن نفصح!».
وهذه مسألة حيوية لا يجدى معها دفن الرءوس فى الرمال، فالدول لا تدير سياساتها العليا بمنطق النعام، ومصر ليست دولة صغيرة حتى تتخاذل قياداتها فى مواجهة اخطار تتعلق بأمنها القومى على النحو الذى كان يقوم به مبارك، الذى لم يدرك أبدا قيمة البلد الذى يحكمه.
فى اجتماع مغلق بعد أسابيع قليلة من نجاح الثورة قال عضو بارز فى المجلس العسكرى، لديه صورة دقيقة للصراع حول مصر بحكم منصبه: «من يعتقد أن مصر يمكنها أن تستعيد الآن الدور الذى لعبته فى الستينيات فهو واهم».. ثم أردف معلقا على احتجاجات حول التسويف فى محاكمة مبارك: «أنتم تتهموننا بأننا خونة.. لماذا ندافع عن مبارك، لقد أهدر أمن مصر بصورة تفوق أى خيال».. ولم يكن ذلك اتهام سياسى معارض، بل من رجل فى قلب السلطة العليا يتابع ويعرف الأسرار والتفاصيل. إنه اتهام صريح بالخيانة، بينما تجرى محاكمة مبارك الآن باتهامات بعضها مثير للسخرية!.. إنه التحسب ــ إذن ــ من إغضاب إسرائيل، أو الدخول معها فى أزمة كبيرة بتوقيت حساس بسبب تدخلها فى الشأن المصرى!
وإذا ما قبلنا تلك الحجة، فإن هناك سؤالا آخر: ما الذى فعله العسكرى لجعل الجبهة الداخلية أكثر تماسكا بما يمنع ويردع الذين يخططون لإشعال الحرائق فيها؟.
الإجابة سلبية تماما، فالقتل والسحل وفض الاعتصامات بالقوة الغاشمة لا يحصن الدولة ولا يصون هيبة الجيش ولا يحمى التماسك الداخلى، وخريطة الطريق التى اعتمدها العسكرى أودت بنا إلى مسالك ملغمة، انتخابات بلا دستور وبرلمان بلا صلاحية وحكومة بلا شرعية. وهذه كلها مقدمات صدام ورهانات على المجهول.
مصر فى فراغ شرعية، ولكن الصدام لا يجرى فى فراغ، الصدام تصنعه الحقائق على الأرض لا فى الفراغ، لكن فراغ الشرعية يؤجج الصدام، فلا قواعد تحكم، ولا شرعية ثورية تحدد الأهداف والأولويات والمسارات، ولا شرعية دستورية تصون وتحمى.
وإذا كان هناك من يريد أن يخطط لإسقاط المؤسسة العسكرية، فالمجلس العسكرى وفر أمامه أسباب النجاح فى مهمته بأقل التكاليف. العسكرى ارتكب خطيئة كبرى بوضع الجيش فى مواجهة شعبه، وكانت أخطر النتائج الاستراتيجية فى موقعة شارع مجلس الشعب أن الصور التى أبرزت همجية العدوان على المتظاهرين وقتل وسحل وتعرية الفتيات أصابت فى الوقت نفسه سمعة الجيش بأضرار فادحة. فهذا ليس جيشنا، ولا الذين انتهكوا حرمة النساء جنودنا. وهذه مسألة بالغة الخطورة على صورة الجيش فى بلد قد يعتدى على حدوده فى أى وقت.
وبلغت المأساة ذروتها، فى مؤتمر صحفى عقده العسكرى لترميم صورته أمام العالم، عندما أخذ اللواء «عادل عمارة» يحيى مرة بعد أخرى، بمناسبة وبغير مناسبة، داخل السياق وخارج السياق «أبطال القوات المسلحة»، ولم تكن تلك هى القضية، فلا أحد فى مصر ينكر بطولاتها فى الحروب التى خاضتها، غير أن الحديث عن البطولة والإلحاح عليها فى سياق قتل وسحل متظاهرين وتعرية فتيات ففيه عجرفة قوة لا تدرك أن للقوة حدودها، وأن مثل هذه الجرائم تستحق أن تذهب بملفها الدموى إلى قاعات المحاكمة، لا اعتبارها من أعمال البطولة.
هذه هى الفرضية الأولى، ولا أحد مستعد أن يصدقها حتى توضع التفاصيل موثقة لا تزييف فيها تحت نظر الرأى العام، وأن يحال الملف كله إلى جهات التحقيق.
وثانيهما، أن العسكرى يحاول إثارة أجواء من التخويف والذعر قبل مليونية الذكرى الأولى لثورة ٢٥ يناير لإجهاض تلك المليونية، التى يتوقع أن تتهمه بالانقضاض على الثورة، وتطلب محاسبته على الدماء التى سالت فى «ماسبيرو» و«محمد محمود» و«مجلس الشعب».
هذا اليوم بالذات يمثل هاجسا لدى العسكرى، فالأعداد المحتشدة سوف تكون أكبر باليقين من أية حشود أخرى منذ «جمعة النصر»، التى أعقبت تنحية الرئيس السابق.
الغضب فى صفوف الأجيال الجديدة يتسع ويتمدد، وفى اعتقاد أجيال الشباب، ومعهم الحق، أنهم هم الذين بادروا بالتحرك وقبلوا التضحية وقدموا شهداء وتقدموا المشهد التاريخى بمظهر حديث أبهر العالم كله، ثم جرى إقصاؤهم من المشهد السياسى، وذهبت غنائم الثورة لغير أصحابها، وباتت الثورة نفسها مهددة بنكسة كبيرة قبل أن تكمل عامها الأول.
لدى جماعات الشباب أسباب غضب ودواعى حنق انصبت على العسكرى، الذى تآكلت شرعيته، وبات هناك ما يشبه الإجماع العام على سرعة مغادرته السلطة وتسليم الحكم للمدنيين فورا.. اليوم قبل الغد.
هذه الدعوات تقلق العسكرى، فهى بأسبابها عريضة اتهام، وهى بهتافاتها داعية إلى محاكمات. ورغم أن التيار الإسلامى بجناحيه الإخوانى والسلفى قاطع جمعة رد الشرف، باستثناءات لها طبيعة شخصية واخلاقية، واعتُبر ذلك دعما للمجلس العسكرى، لكنه دعم لم يذهب إلى حد قبول تعرية الفتيات وقتل وسحل المتظاهرين، وهو موقف يريح العسكرى مؤقتا ولكنه لا يسكن إليه مستقبلا، فقد تستدعى الأجواء المتغيرة مواقف مختلفة.
لحزب «الحرية والعدالة» أغلبيته البرلمانية، وهو لا يريد أن يغامر بها قبل أن يدخل البرلمان، ويقايض العسكرى على تقاسم السلطة. وهو مستعد أن يتخلى عن أية اعتبارات أخلاقية فى إدانة صريحة وقوية ومباشرة للانتهاكات بحق المرأة المصرية مقابل تسكين العلاقة مع العسكرى وإعطاء انطباع عام بالتوافق معه حتى النهاية، ولكن هذا الموقف البرجماتى قد يتعدل لأسباب برجماتية أخرى، فالإخوانى لا يشارك فى الاحتجاجات ضد العسكرى، ولكنه المستفيد الأول منها، فكلما تآكلت شرعية العسكرى بوسعه أن يطالب بمزيد من الحصة فى السلطة، والعسكرى المأزوم بين أغلبية لا يأمن لها فى البرلمان ومليونيات تناهضه فى الميدان لا يجد أمامه غير تفزيع الأطراف كلها من ٢٥ يناير المقبل.
ولعل إعلان «المشير» المبكر عن التئام مجلس الشعب الجديد يوم ٢٣ يناير قبل مليونية ذكرى الثورة بيومين فيه دعوة صريحة للإخوان المسلمين بالخروج الكامل من الميدان فى هذا اليوم.
المشهد إذن يوحى بصدام اقتربت مواعيده.. وقد سبقته صدامات بدرجات مختلفة من العنف الأمنى والعسكرى على مدى يقارب العام، وسقط شهداء وضحايا، وانتهكت كرامات وحقوق بشر، ولكن ما قد يحدث فى يناير المقبل وما بعده يتجاوز الخطر فيه أى خط أحمر، وقد يودى الصدام بالثورة والمستقبل معا.
طرف يحذر من حرائق، ولكنه لا يتصرف كسلطة دولة مسئولة عن حماية المؤسسات العامة.. ولديه مخاوفه من أن يتعرض مستقبلا للملاحقة القانونية. وهذا سبب إضافى للبقاء فى السلطة.. وطرف ثان يطلب ويلح على مغادرة العسكرى فورا لهذه السلطة، دون أن تسعفه بدائله التى يطرحها. الطرف الأول، يراهن على التفزيع.. والطرف الثانى، الشباب الثائر، يراهن على فورة الغضب حتى منتهاها. بينما الطرف الثالث، الذى حصد أغلبية البرلمان يرقب من بعيد، لا يريد أن يقترب من الشباب الغاضب وقد افترقت الطرق ولا يسعى لصدام مع العسكرى وقد اقتربت جوائز السلطة.
هل هناك مخرج من ثقب إبرة يفلت بالثورة من الإجهاز عليها، ويفلت بالدولة من تهديد سلامتها، ويفلت بالديمقراطية من الانقلاب عليها..!
هذا سؤال الساعة، وربما يساعد فى التفكير أن نبحث أولا عن توافق وطنى واسع حول طريقة تشكيل الهيئة التأسيسية والمبادئ الأساسية التى تحكم الدستور الجديد.. وهناك أوراق، بعضها موقع رسميا من حزب الحرية والعدالة، تؤكد على تحصين الحريات العامة وصيانة الدولة بمقوماتها المدنية والديمقراطية.. وأن نبحث ثانيا فى التوافق على تأجيل انتخابات مجلس الشورى إلى حين أن يقرر الدستور الجديد وجوده من عدمه.. وأن نبحث ثالثا فى التوافق على تشكيل حكومة ائتلافية لها سند فى البرلمان. التوافق الأول، ينزع احتمالات الصدام بين البرلمان والميدان ويضمن سلامة التحول إلى مجتمع ديمقراطى حر وهو من الأهداف الرئيسية لثورة يناير. التوافق الثانى، يضع كمادة ثلج على رأس محموم، فالهيئة القضائية شبه معطلة وجهاز الأمن شبه معزول، ويمكن للعسكرى فى حالة التوافق أن يصدر إعلانا دستوريا بهذا الخصوص. والتوافق الثالث، ينزع صداما آخر محتملا بين البرلمان والحكومة.
ومن الضرورى أن تتصدر قائمة التوافقات الوطنية مهام الثورة ومطالبها الرئيسية، وإلا فإن المعنى ــ مع ٢٥ يناير المقبل ــ أن الثورة قد اغتيلت.