ماذا تبقى من الثورة؟ - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 8:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا تبقى من الثورة؟

نشر فى : السبت 27 يونيو 2015 - 10:15 ص | آخر تحديث : السبت 27 يونيو 2015 - 10:15 ص

السؤال عما تبقى من الثورة، أية ثورة، يفترض أن تكون تجربتها استوفيت أو مر وقت طويل نسبيا على وقائعها.

الوقت مسألة ضرورية حتى يمكن النظر بإمعان فى تجربتها والتقييم بعمق لحصادها.

بحكم الزمن لم يمض وقت طويل على الأحداث الدراماتيكية العاصفة فى «يناير» و«يونيو».

كانت «يناير» ثورة حقيقية أطاحت دولة بوليسية وحكما فاسدا لكنها لم تؤسس لنظام جديد تستحقه مصر.

تعثرت تماما بين الشرعيتين الثورية والدستورية، فلا أخذت الأولى مداها ولا وقفت الثانية على أرض.

كانت هناك أهداف للثورة افتقدت إلى أى مفاهيم واضحة ومبادئ معلنة.

كان ممكنا لكل من يتكلم أن يؤكد التزامه بالعدالة الاجتماعية دون أن يكون هناك ما يعنيه ويلزمه.
وكان ممكنا التلاعب بقضية الحرية طالما لم تكن هناك قواعد دستورية ملزمة تصون مدنية الدولة وتضمن ديمقراطية الحكم.

هكذا اختطفت «يناير» من بين ثغراتها الواسعة وبدت مصر أمام أشباح الاحتراب الأهلى.

رغم ذلك كانت تجربتها العميقة وراء التغيير الكبير الذى جرى فى (٣٠) يونيو.

‫«‬يونيو» مستحيلة تماما ما لم تكن هناك «يناير» وأى كلام آخر أقرب إلى الهذيان.

فى «يناير» تطلعت مصر إلى نظام جديد يلحقها بعصرها.

وفى «يونيو» دعت إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.

بالمرتين كان الإخفاق عنوانا على الثورة المختطفة.

غير أن «يونيو» أثبتت بحشودها المليونية غير المسبوقة أنه يمكن استرداد ما اختطف وحساب من اختطف.

وهذا ليس جديدا على التاريخ المصرى الحديث الذى شهد تراجعات فادحة قبل أن يصحح مساره مرة بعد أخرى.

فى عام (١٨٨٢) احتلت مصر واجهضت الثورة العرابية.

ران صمت طويل وبدا أن كل شىء انطفئ.

عندما عاد زعيمها «أحمد عرابى» من منفاه وجد من يجحد دوره وينكل بتاريخه ويهزئ بشخصه.

ذات مساء وهو يخرج من جامع يصلى فيه هتف شاب وطنى تأثر بالدعايات ضده: «يا خائن».

مسح بصقة على وجهه وندت من عينيه دمعة.

انتظرت الثورة العرابية سنوات طويلة حتى رد اعتبارها بعد سقوط أسرة «محمد على».

رغم الدور التاريخى الكبير لـ«مصطفى كامل» فى إحياء الوطنية المصرية إلا أن موقفه كان سلبيا للغاية من زعيم الثورة العرابية.

فى القطيعة تبدت إحدى أزمات التاريخ المصرى الحديث غير أن ما تحت السطح أثبت تواصل العطاء، فقد مهدت شخصيات لعبت أدوارا نافذة فى «الثورة العرابية» لحركة «مصطفى كامل» وكانت جسرا بين جيلين من أمثال «عبدالله النديم»، بل إن زعيم ثورة (١٩١٩) «سعد زغلول» نفسه اكتسب خبراته السياسية فى أتون الثورة العرابية.

بمعنى ما يمكن القول إن هناك مشروعا وطنيا مصريا يتجدد من مرحلة إلى أخرى.

فى ثورة (١٩١٩) تبلور هدفان.. أولهما، الاستقلال.. وثانيهما، الدستور.

دفع المصريون فوائض من فواتير الدم للحصول على هذين الهدفين.

بالأرقام فإن عدد الذين استشهدوا فى (١٩١٩) أكبر ممن استشهدوا فى (٢٠١١) رغم الزيادة الهائلة التى طرأت على عدد السكان.

مع ذلك لا الاستقلال تحقق ولا الدستور جرى احترامه.

لا يعنى ذلك أن الثورة أخفقت وأن تضحياتها ذهبت سدى.

قوة الثورات فيما تثيره من تفاعلات لا سابق لها فى بنية مجتمعاتها وتغيرات عميقة فى النفسية العامة.

بهذا المعنى كانت (١٩) ثورة عظيمة ألهمت فنا وثقافة وأفسحت المجال لدخول عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى بثقة أكبر فى النفس.

لم تعد مصر بعدها كما كانت قبلها.

شىء من الثقة المماثلة فى قدرة المصرى العادى على التغيير استقرت بعد «يناير» و«يونيو».

ثورة «يوليو» أكدت القيمة نفسها غير أن تجربتها كانت أعرض وأثرها أعمق فقد استوفت زمانها.

«يوليو» بنت ما بعد الحرب العالمية الثانية وطلبها التحرير الوطنى هو نفسه طلب العالم الثالث كله وسعيها للعدل الاجتماعى هو نفس سعى الشعوب المقهورة.

لم تخترع مشروعها، فقد كانت خطوطه الرئيسية قد تحددت فى المجرى العام للحركة الوطنية المصرية.

أنجزت وأخفقت، انتصرت وانتكست وتركت إرثا هو ملك لكل المصريين والعرب لا لتيار سياسى واحد.

لسنوات طويلة بعد رحيل «جمال عبدالناصر» كان أكثر الأسئلة جوهرية: ما الذى تبقى من «يوليو»؟

تعدد الإجابات وتنوعت باختلاف الظروف لكنه لم يكن بوسع أحد أن ينكر الأثر الهائل الذى خلفته.

كلما مضى الزمن مالت الإجابات إلى أولوية الحلم وقوة حضوره العام بعد أن تهدمت تقريبا أغلب الإنجازات التى بنتها وتراجعت كل السياسات التى تبنتها.

رغم أية أخطاء جوهرية ارتكبتها «يوليو» فإنها ألهمت ثقافة وفنا ووعيا جديدا بقيم العصر الاجتماعية والتحررية لا مثيل له فى التاريخ الحديث كله.

فى لحظة الهزيمة أدرك زعيمها أن «كعب أخيل» الذى طالته السهام هو فى نظامه السياسى.
كان المشروع أقوى من النظام.

ذهب الثانى وصمد الأول أمام اختبارات الزمن.

أفضل تعريف للناصرية أنها المشروع الوطنى المتجدد.

وفق هذا التعريف فإن أى تقدم للمستقبل يستدعى أن تكون هناك رؤية واضحة للتاريخ الوطنى تحترم تضحياته ولا تخفى ثغراته، تبنى على ما تقدم وتجتهد فى الاستجابة لتحديات زمنها.

وهذا زمن «يناير».

بقدر احترامك للأحلام التى حلقت فيها والتضحيات التى بذلت فى ميادينها فأنت تحترم تاريخك الوطنى كله.

قبل عامين بالضبط جاءت «يونيو» لتصحح ما اختل من أوضاع وتستعيد «يناير» التى اختطفت.

ليس من حق أحد أن يتحدث عن «يونيو» كنقيض لـ«يناير» إلا أن يكون مدلسا، فلم يكن يجرؤ أحد أثناء الحدث الكبير أن يتحدث بهذه اللغة أو أن يصرح بهذا المعنى.

قيمة «يونيو» فى انتسابها لـ«يناير» وإلا فإنها ثورة مضادة وانتهاك لأية قيمة سياسية وأخلاقية خرجت الملايين تحت عباءتها.

بوضوح كامل: لن يستقر هذا البلد ما لم يلتزم بالشرعية الدستورية التى تنص على أن «ثورة ٢٥ يناير ـ ٣٠ يونيو فريدة بين الثورات الكبرى فى تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التى قدرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق».

إنكار الثورة عدوان على الشرعية والتنكيل بالأجيال الجديدة عدوان آخر بينما غياب القواعد الدستورية دعوة للماضى أن يعود وللدولة البوليسية أن تتغول.

وهذا مستحيل بأى حساب سياسى مهما أغوت القوة.

فالفكرة لها الكلمة الأخيرة دائما.

مصر تغيرت والقصة لم تستكمل فصولها.