تتوالى الحقائق الكاشفة عن ارتفاع معدلات العنف ضد النساء والأطفال داخل الأسرة المصرية، وتتوالى مشروعات القوانين المعنية بتجريم ممارسات العنف لكن ذاته العنف مازال طليقا، وقد أشارت دراسة للمجلس القومى للمرأة «العنف ضد النساء فى مصر» أن 28 % من النساء يتعرضن للعنف الجسدى على أيدى أزواجهن، وأقر أن ما يقرب من أربعة من كل خمسة رجال وجهوا شكلا ما من أشكال العنف النفسى إلى زوجاتهم. بينما أفادت ما يقرب من نصف الشابات بأنهن تعرضن للعنف الجسدى على أيدى أشقائهم الذكور؛ كما وجدت نسبة مماثلة أفادت بالتعرض للعنف الجسدى من قبل الأب.
تُنْقذ المادة 60 من قانون العقوبات مرتكبى العنف ضد النساء وتمدهم بحصانة من العقوبة فى حالات العنف الأسرى، حين يُمنح الجانى الرأفة إذا أثبت أن ما ارتكبه كان «بنية سليمة»، فلا يحتوى القانون المصرى على نص يجرم العنف الأسرى. وعليه يمكن استخدام هذه المادة لتبرير العنف الأسرى على أنه حق الزوج فى تأديب زوجته ولتبرير جرائم الشرف. علاوة على ذلك، فإن الاغتصاب الزوجى غير معترف به فى قانون العقوبات. على صعيد آخر، ورغم غياب مصطلح «جرائم الشرف» من التشريعات المصرية، إلا أن قتل النساء على خلفية الشرف يلقى تعاطفا من المحاكم، ويشهد تخفيفا للحكم على جريمة هى فى واقع الأمر جريمة قتل عمد، حيث يتيح قانون العقوبات للقاضى النزول بالعقوبة درجتين إذا رأى أن ملابسات الجريمة تستدعى ذلك. وتستند المحاكم إلى المادة ذاتها لإصدار عقوبات مخففة أحيانا فى جرائم الاغتصاب والعنف الجنسى.
وقد كشفت جائحة كورونا الغطاء عن حوادث عنف أسرى مؤلمة لاقت استنكارا ورفضا مجتمعيا، لكنها لم تكن كافية لقبول مشروعات القوانين المقدمة إلى البرلمان فى دورته السابقة، فقد تقدم المجلس القومى للمرأة بمشروع قانون معنى بحماية المرأة من كل أشكال العنف، التى تتعرض لها سواء فى نطاق الحقوق الشخصية أو الحقوق الاقتصادية، أو السياسية، أو الاجتماعية، كما تقدمت سبع منظمات نسوية بمشروع قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء عام 2018 وحملته للبرلمان النائبة نادية هنرى لعرضه على اللجان المختصة.
تنتظر الأسر المصرية من نواب ونائبات البرلمان الجديد الدفع بمشروع القانون لإقراره ووضع حد لممارسات العنف التى تستفحل بالتجاهل وتترسخ بعدم المواجهة وتستشرى بقانون غائب أو أضعف من التفعيل.
أحكام القانون وأحكام التقاليد
برغم مضى ثمانية عشر عاما على تعيين أول قاضية فى مصر، لم يتعد عدد القاضيات 66 قاضية من بين 16 ألف قاض، ومازالت أبواب ثلاثة من مؤسسات القضاء مغلقة أمام النساء، فلا تقبل النيابة العامة الخريجات فى أى مسابقات، وقد أعلنت فى 2010 عن تعيين دفعة جديدة، مع وضع جملة «لا للفتيات» فى إجراء تمييزى واضح مما يخلّ بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. وتعتبر النيابة العامة مرحلة أساسية قبل تولى المناصب القضائية فى القضاء العادى. ثانيا القضاء العادى، بالرغم من عدم قبول النساء فى تعيينات النيابة العامة، ولكن من حين لآخر تصدر قرارات من المجلس الأعلى للقضاء بنقل عضوات من النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة إلى «المحاكم الاقتصادية، الأسرة، المدنية، الجنائية».
ثالثا مجلس الدولة، ويرفض مجلس الدولة تعيين النساء فى وظيفة مندوب مساعد بمجلس الدولة، ويمكن الاطلاع على وجهة نظر قضاة مجلس الدولة من خلال تقرير مفوضى مجلس الدولة حول إحدى القضايا المتداولة بالمجلس والتى تطالب فيها صاحبة الدعوى بحقها فى التعيين به، فقد جاء فى التقرير ما يلى: «وحيث إن الحكم الدستورى المجرد الذى يقضى بالمساواة فى الحقوق العامة شيء وتقرير سلطة التعيين لمدى صلاحية المرأة للاضطلاع بمهام بعض الوظائف العامة شيء آخر إذ لعوامل البيئة وأحكام التقاليد وطبيعة الوظيفة ومسئولياتها شأن كبير فى توجيه السلطة الإدارية الوجهة التى تراها محققة للمصلحة العامة. وهو ما يناقض المادة 11 من الدستور التى تنص على أن تكفل الدولة «للمرأة حقها فى تولى الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا فى الدولة والتعيين فى الجهات والهيئات القضائية، دون تمييز ضدها». والجهات القضائية التى وردت فى الدستور هى النيابة العامة والقضاء العادى ومجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا والقضاء العسكرى، أما الهيئات القضائية، فهى النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، وتنص المادة 9 على التزام «الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز»، ينتظر البرلمان إذن البت فى مشروع «تعيين المرأة قاضية» والذى أحيل للجنة الدستورية والتشريعية فى يناير 2018.
شهادة تغلق عليك القفص الحديدى
شهد العام المنصرم أحداثا استثنائية، حينما قررت بعض الفتيات مواجهة مغتصبين اعتادوا الاحتماء خلف مواقع نفوذهم وخلف بيئة ذكورية تحفز وتعزز ممارسات الاعتداء على النساء للانتشاء بالذكورة، تنوعت سبل المواجهة بين إنشاء صفحة إلكترونية ذكية ساهمت فى فضح تلك الممارسات، وأيضا شجعت العديد من الناجيات على الإبلاغ عما تعرضن له، لكن المفاجأة كانت فيما نالته الشاهدات من عقاب لاحقا بلغ حد إيداع البعض منهن فى قفص الاتهام. انتهى العام الماضى مسلطا الضوء على أحد أعمق مظاهر التمييز ضد النساء فى مصر، وكأنما مطالبة النساء بتطبيق العدالة فعلُ مُستفز لا تستسيغه الثقافة المجتمعية فتتمادى فى إيذاء من بادرن بالمواجهة. ترك العام الماضى إرثا من الخوف بين الناجيات لكنه فتح ملفا كان محكم الإغلاق داعيا جميع الفاعلين فى عملية التشريع إلى إنقاذ العدالة ذاتها من هذا الخلل الفاضح الذى كاد يهدد سمعة مصر.
وهكذا فقد ترك العام الماضى بأحداثه سؤالا كبيرا حول سبل حماية الشهود والمُبَلغات فى جرائم العنف بجميع أشكاله؟ لقد تسربت بيانات الشهود ودمرت حياة البعض منهن، فكيف سيتعامل المشرع مع هذا الملف؟ متى سيخرج قانون حماية الشهود؟ متى سيُجرم تسريب بيانات الناجيات والشهود؟
لقد استجابت وزارة العدل وطرحت تعديلا على قانون الإجراءات الجنائية نال موافقة البرلمان الماضى، إلا أنه لا يلبى تطلعات الجموع التى يجب أن ندعم دورها فى الشهادة بحمايتهم عبر قانون متكامل يبعث الثقة فى منظومة العدالة وفى حماية الشاهد أو الشاهدة بدون الخوف من الترويع والإساءة وتشويه السمعة.
إطار واحد يجمع بين الحقوق السابقة، ويضعها على رأس أولويات المُشرع، فجميعها مَعْنية بأمن المواطنة والمواطن المصرى، حيث يبدأ أمن الإنسان ذكرا كان أم أنثى من منزله وما يحكمه من قواعد تنظم العلاقة بين أفراده، وكلما كانت تلك القواعد داعمة لحقوق متساوية بين البشر تعزز الأمن، لكن القوانين التى تؤسس إلى علاقات قائمة على التراتبية لا تحصد إلا عنفا وتمردا وتنمرا ومعدلات طلاق باتت الأعلى بالعالم. الأمن يتحقق بمفتاح واحد يسمى العدل بين البشر التى خلقها الله متساوية.
إن قوانين الأسرة وكل القوانين المتعلقة بأمن المواطنين داخل مجالهم الخاص وفى المجال العام لهى من أهم محاور النظام التشريعى، لما تمثله من جدار حامٍ مرتبط بجميع البنى الاجتماعية والاقتصادية. ينتظر المصريون من القوانين القادمة بناء قاعدة عادلة بدون تمييز لصالح طرف ما، قوانين تُقر الأمن والعدالة والمساواة وتحمى المواطنين جميعا بسقف قانونى لا يعلوه إلا احترام حقوق الإنسان جميع واحترام كرامته التى لا يجوز إهانتها أو الجور عليها تحت أى مسمى كان.
ينتظر المصريون رجالا ونساء، تشريعات تركز على المواطن والمواطنة وتعنى بمصالحهم، تشريعات منطلقة من الواقع الراهن تخاطب احتياجات الناس ولا تتعالى عليهم مطالبة إياهم إعمال ضمائرهم والمبادئ المثلى، فالمبادئ المثلى تفرض بالتشريع والتعليم والتثقيف لتترسخ ولا تهبط على البشر هبوط المطر.
أخيرا تحتاج نساء مصر ورجالها والأجيال القادمة إلى تنقية القوانين والإجراءات جميع من النزعة الأبوية وإلى العمل الدءوب لتغيير السياق الثقافى والاجتماعى والسياسى والاقتصادى الذى أفرز التحديات التى يواجهها المجتمع الآن وأسس لإعادة تكرارها وهو ما يجب أن تدركه التشريعات وتعمل على إيقاف دورانه.