أزمةُ الديموقراطيين المُحْدَثين مع صناديق الانتخاب - سليمان عبدالمنعم - بوابة الشروق
الخميس 6 نوفمبر 2025 6:10 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يحسم السوبر المصري؟

أزمةُ الديموقراطيين المُحْدَثين مع صناديق الانتخاب

نشر فى : السبت 28 سبتمبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 28 سبتمبر 2013 - 8:00 ص

يتقدم العالم كله بفضل منجزات الحداثة التقنية والفكرية والسياسية. لكن ما إن تصل هذه الحداثة إلى مصر حتى تتحول من وسيلة تقدم إلى سبب أزمة. حدث هذا فى فهمنا للحرية والثورة والديمقراطية وأمور أخرى كثيرة. وصندوق الانتخاب اليوم مثال جديد على هذا التفرد المصرى. فالنظم الديمقراطية فى العالم كله ليس لديها مشكلة مع صندوق الانتخاب. لكن المصريين وحدهم ما زالوا على حيرتهم وشكوكهم فى مواجهته. السؤال الآن هو إذا كنا لا نثق فى نتائج صناديق الاقتراع فكيف السبيل إلى إصلاح المنظومة السياسية والقانونية والإدارية الكفيلة ببناء الثقة فى نتائج هذه الصناديق؟ ثمة تشخيص واجب أولا قبل محاولة البحث عن الإجابة.

أصبح صندوق الاقتراع منذ أمد طويل الوسيلة الديمقراطية الوحيدة (المتاحة) لكى يحكم الشعب نفسه بنفسه. لم يمنع هذا من وجود مآخذ فلسفية وعملية على هذا الصندوق العجيب. لا ينسى الكثيرون أن صندوق الاقتراع هو الذى أتى بهتلر يوما ما إلى حكم ألمانيا. لكنهم ينسون أن هذا استثناء فى سيرورة الديمقراطية الغربية. كانت الكارثة النازية جزءا من الثمن الديمقراطى الذى دفعه الشعب الألمانى نيابة عن كل شعوب الديمقراطيات الحديثة. استوعب الألمان الدرس المرير جيدا. جزء من هذا الدرس أن الأنظمة الفاشية لا تنجح إلا بقدر ما تسود ثقافة الخوف وبقدر ما يوجد من مثقفين متواطئين. ألم يكن المفكر الألمانى الكبير «هايدجر» هو الذى وضع هتلر فوق المساءلة؟ تجاوز الألمان هذا الاستثناء العابر فى حياتهم وأصبح لديهم دستور ينص على إسقاط بعض الحقوق الأساسية التى يتضمنها إذا كان استخدامها يمثل خروجا على النظام الديمقراطى. ما أحوجنا اليوم لمثل هذا النص فى دستورنا الجديد.

 المؤكد ــ على أى حال ــ أن الفكر الإنسانى لم يصل بعد لما هو أفضل من ديمقراطية صناديق الاقتراع. بالطبع لا يمكن لصندوق الاقتراع فى المجتمعات حديثة العهد بالديمقراطية أن ينشئ بين يوم وليلة نظما ديمقراطية رشيدة ومتقدمة كما فى إنجلترا وسويسرا مثلا. ولهذا كانت المقولة العميقة للكاتب الأيرلندى الساخر جورج برنارد شو أن «الديمقراطية هى منهج يضمن أننا لن نحكم بأفضل مما نستحق». 

 السلبيات التى يأخذها البعض على صندوق الاقتراع فى المجتمعات الغربية تختلف عن تلك التى نرددها فى مصر. ففى الغرب يتضاءل دور الأمية والجهل فى توجيه صناديق الانتخاب. فى المقابل تبدو الشركات الكبرى والكيانات الصناعية وربما معها تحالف غامض آخر من قطاعات السلاح والمال والإعلام الطرف الأكبر تأثيرا فى صناديق الانتخاب. من هنا كانت صرخة تحذير الزعيم الاشتراكى الفرنسى Jean  Jaurès أن «الديمقراطية الحرة هى ديمقراطية الذين يملكون». وكان جمال عبدالناصر متوجسا من الديمقراطية  فى مجتمع لا تمتلك أكثريته لقمة العيش الكريم. لكن أثبتت التجربة أن الديمقراطية الغربية كانت قادرة على أن تصحح نفسها بنفسها من خلال مكابح توقف التجاوزات ونظم رقابية وقانونية للمساءلة وقطاع حر من أصحاب الرأى والضمير. والأمثلة على ذلك عديدة مثل (التنصت) على الخصوم السياسيين فى فضيحة نيكسون جيت، و(الكذب) فى فضيحة كلينتون مونيكا، و(التحرش) فى فضيحة الرئيس الإسرائيلى كاتساف، وآخرون غيرهم.

●●●

فى مصر تبدو المآخذ على صندوق الاقتراع على نحو آخر مختلف. يتوجس الكثيرون من التأثير السلبى للفقر والجهل على خيارات الناخبين. طالب بعض هؤلاء  ومن بينهم مثقفون وأدباء كبار بحرمان الأميين من التصويت فى الانتخابات وزاد البعض على ذلك بإضافة من لم يحصلوا على درجة معينة من التعليم. لكن السؤال الذى لا ينبغى الفرار منه هو هل من المنطقى أو القانونى التشكيك فى نتائج صناديق الاقتراع لمجرد أن عددا ما (يستحيل حسابه بالضرورة) جاء تصويته تحت وطأة إغراء مادى أو مضللا بدعاية دينية؟ مشكلة الإجابة أن التشكيك فى نتائج صناديق الاقتراع بدعاوى الفقر والجهل يصطدم بالمبدأ الديمقراطى ذاته بل يضع أصحابه فى ورطة حقيقية (وعنصرية) مع مبدأ المساواة بين البشر واحترام كرامتهم الإنسانية بصرف النظر عن فقرهم أو أميتهم. أضف لذلك انه وبفرض قبولنا النظرى لمثل هذه الحجة فإننا لا نعرف عملا بعد كم من السنين أو عشرات السنين يمكن لنا القضاء على الفقر والأمية وصولا الى صناديق انتخاب أكثر نقاء وأناقة وبهاء؟

والأخطر أن فكرة (نقاء) صندوق الانتخاب باستبعاد أمراض الفقر والأمية والجهل لا تختلف كثيرا عن فكرة النقاء العرقى لدى القائلين بها. ثمة رائحة عنصرية مشتركة بين الاثنين. فالعنصرية فى أبسط وأعمق معانيها هى التمييز بين البشر بسبب صفات كامنة فيهم أو فئات ينتسبون إليها. ثم ماذا يعنى الفقر والجهل لدى المتذرعين بهما للتشكيك فى نتائج صناديق الاقتراع؟ هذه مفاهيم نسبية وأحكام تقديرية تتفاوت فيها الآراء. ولنفترض أن رجل أعمال ثريا منح صوته لمرشح معين وربما ساعده بالمال منتظرا منه تسهيل أعماله الاقتصادية مستقبلا.. ألا يعتبر مثل هذا الرجل الثرى قد باع صوته بتأثير المال تماما مثلما باع رجل فقير صوته الانتخابى مقابل زجاجة زيت وعدة كيلو جرامات من السكر والأرز؟ أما المعرفة وعكسها الجهل فهى أيضا مفهوم نسبى. أليس هناك من الأميين ومتوسطى التعليم من هم أكثر رجاحة عقل من حاملى شهادات جامعية؟ ثم إذا استبعدنا الأمية القرائية فهل نستبعد أيضا الأمية التعليمية أو الثقافية؟ ووفقا لأى معيار يتم هذا؟ 

ينسى المطالبون بقصر حق التصويت فى مصر على المتعلمين أن الهند أكبر ديمقراطيات العالم تعانى من الأمية مثلنا بل ان معدل الأمية فى الهند يتجاوز بقليل معدل الأمية فى مصر وفقا لأحدث الإحصائيات. ومع ذلك فلم نسمع أن مفكرين أو أدباء هنود طالبوا بمنع تصويت الأميين الهنود فى الانتخابات العامة.  

●●●

التناقض الذى يقع فيه الديمقراطيون المحدثون ذوو الياقات البيضاء أنهم يحمّلون الفقراء والأميين فى مصر المسئولية عن فقرهم وأميتهم بدلا من انتقاد الحكومات المتقاعسة البليدة. يتجاهل كارهو الأميين والفقراء انه كان يمكن القضاء على الأمية لو أن جزءا صغيرا جدا من مليارات مصر المنهوبة التى تم تهريبها إلى الخارج (خفت الحديث عنها فجأة فى الآونة الأخيرة) قد تم استخدامه فى مشاريع جادة لمحو الأمية. الأمر نفسه ينطبق على مكافحة الفقر والبطالة.

نحن فى الواقع نطرح خيارين كل منهما ملتبس ومغلوط: هل نحظر حق التصويت فى الانتخابات على الأميّين أم نظل نشكك فى نتائج صناديق الانتخاب وربما نصادرها الى حين؟ الخيار الأول ذو رائحة عنصرية والثانى لا يخلو من فاشية. بدلا من ذلك كان السؤال الأجدى بالطرح هو: ما الإصلاحات والبدائل الممكنة التى تعيد إلينا جميعا الثقة فى نتائج صناديق الانتخاب؟ ليكن هذا موضوع حديث آخر. 

 

أستاذ بكلية حقوق الإسكندرية

سليمان عبدالمنعم أستاذ بكلية الحقوق ــ جامعة الإسكندرية
التعليقات