عندما يختلط الدقيق بالماء - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عندما يختلط الدقيق بالماء

نشر فى : الأحد 28 سبتمبر 2014 - 7:30 ص | آخر تحديث : الأحد 28 سبتمبر 2014 - 7:30 ص

وحدها حرارة المطبخ قد تعكر صفو اللحظة. أما خليط الروائح والألوان والنكهات فينعش الحواس، ويدخلك إلى عالم سحرى يختلط فيه الدقيق بالماء لتمتد عجينة مطاطية جاهزة للعب والتشكيل على الطاولة الرخامية. هكذا هو الطبخ بالنسبة لى وللكثيرين: طفولة وتجريب ومغامرة، تحتمل النجاح أو الفشل، لكنها ممتعة وخسائرها محدودة. نوع من أنواع الخيمياء التى مورست قديما فى بلاد فارس وما بين النهرين ومصر واليونان والهند لتحويل المواد إلى أخرى ثمينة، بالنظر إلى خواص الأشياء وروحانيتها. نمزج قليلا من السكر البنى مع شرائح البصل والزعتر البرى وخل العنب الأحمر ونضيف إليها النقانق، ونترك الباقى لفعل النار الهادئة... وننتظرها.

•••

خاصة فى وقت الأزمات يكون أحيانا إعداد الطعام هو الحل... خلال أيام حظر التجول مثلا، كنت أهرب من صور العنف فى التليفزيون وأتوجه فورا إلى المطبخ، لأركز على تحضير وجبة شهية، تعوض شقاء الواقع وملل الحبس المنزلى أو تكرار وسائل الإعلام عندما تركز على حدث بعينه. أهرب إلى صور أكثر سعادة: ملامح جدتى وقد بدت أكثر نضارة وشبابا، ونحن حولها صغار نساعد فى تحضير الفواكه لصنع المربى، بشر اللارنج والجزر، البلح وقد انتزعت نواته ليحل محلها اللوز والقرنفل، أوراق الورد البلدى بعد غسلها... مهرجان للمربى يشترك فيه الكبار والصغار، يظل محفورا فى ذاكرة من كانوا أطفالا... يستدعون راحة البال وصفاء اللحظة كلما احتاجوا إليهما، ويترحمون على من اختفى من الصورة ومنحهم يوما السعادة. طعم حلو سخى، لا يفارق الشفايف، ويرسم عليها ابتسامة امتنان.

•••

قد لا يتصور البعض مدى تأثير التحولات الداخلية للطبخ، وكيف يتحول إلى حدث عائلى يستوجب المشاركة، خاصة بالنسبة للأطفال... يغرسون قطع الدجاج التى رفضوا أكلها وقت الغذاء فى «صوص» كثيف، شكلوا ألوانه بمعاونة الأب... لم يعد هذا الأخير الآمر الناهى الذى يحكم عليهم بتناول الطعام، لكن شريك لعب.. علمهم سحر الألوان، فأصبح فجأة الأكل جذابا. تعود هؤلاء اقتسام اللقمة وفرحة إعداد الطعام للآخرين، وصاروا عنصرا ضالعا فى عملية الطبخ المنزلى وحفظ أسرار الوصفات العائلية، وبالتالى جزء مهم من ثقافة البلدان... فى وقت يتعولم فيه المطبخ، وتغزو فيه الوجبات السريعة والمعدة سلفا الأسواق والبيوت. بل أحيانا تتصارع الشعوب على «حقوق الملكية الفكرية» فيما يتعلق بالطعام، يدخل ذلك فى إطار صراع الهويات، كما هو الحال بالنسبة لفلسطين وإسرائيل.

•••

يظل حتى من فقد أرضه ومدينته يتذكر مذاق الأطباق التى كانت تعدها أمه، ويعيد إنتاجها ليذكر الناس بها، كما تفعل السيدة راوية بشارة التى أصدرت مؤخرا كتاب طهى بالإنجليزية بعنوان «زيتون وليمون وزعتر». هى فلسطينية من الناصرة، لديها مطعم ناجح فى بروكلين، تقدم فيه وصفات أمها التقليدية ــ المبتكرة. كانت تقف إلى جوارها فى المطبخ، فالتقطت عدة أشياء وأضافت أخرى، لكى تنشر الثقافة الفلسطينية على طريقتها، فهى لا تحتاج إلى الخوض فى السياسة بشكل مباشر، ما يسفر دوما عن تحدٍ وتباين واضح فى الآراء. لكنها تعد وجبات أهلها التقليدية ليأتى من يتذوقها ويستسيغها ويلتهمها... يقبلها كما هى، بل يحبها، ويعود ليتناولها مجددا... فى اعتراف ضمنى بضرورة بقاء من صنعها، قديما وحديثا. وهو ما قد ينطبق على كثير من المطاعم التى فتحت فى مختلف أنحاء العالم، بعضها سورى أو عراقى أو فلسطينى أو أرمينى... هى قطعا أماكن لكسب العيش، لكن معها يتحول الطبخ أيضا إلى فعل سياسى. فعل سياسى رائحته حلوة وله مذاقه الخاص.

التعليقات