الحجرة البلاط - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 9:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحجرة البلاط

نشر فى : السبت 29 أبريل 2023 - 9:00 ص | آخر تحديث : الأحد 30 أبريل 2023 - 12:11 م
هذه أول ليلة ينامها بين جدران بيت، بعد أكثر من 48 ساعة قضاها فى الخلاء. اجتاز 25 نقطة تفتيش حتى يخرج من الخرطوم ويصل إلى محطة «الباصات». ظل واقفا لساعات ضمن هؤلاء المحتشدين أمام المبنى، ليس متأكدا من أنه سيسافر بالفعل، رغم أنه ممن وصلوا مبكرا. قضى عدة أيام حبيس منزله، وحاول المستحيل كى لا يترك داره، لكن مع اليوم العاشر للصراع أصبح النزوح من العاصمة السودانية هو خيار الأغلبية. لا يتذكر على وجه الدقة متى قرر المغادرة، هل عندما انهار حائط بيت الجارة الذى أصابته دانة ووقع عليها فأودى بحياتها؟ أو حين علم بنبأ وفاة عدد من أقربائه إثر سقوط قذيفة على بنايتهم؟ على الأغلب، حين رأى الناس يحملون نعشا ملفوفا بعلم ويسيرون فى الشارع العريض، فالأطراف المتنازعة على السلطة يستهدفون الأماكن المدنية بشكل عشوائى، والجثث انتفخت فى الساحات ودفنها متطوعون. مهمة قاسية مليئة بالحزن والغضب. أصوات متداخلة لا يمكن تمييزها أو فرزها. الأطفال يتطلعون إلى كل شىء بخوف. يستغربون أن يبكى الرجال. تتزاحم الأسئلة. لا يمكن أن تكون الإجابة التى يقولها الكبار للصغار إن الملائكة جاءت وحملت كل هؤلاء إلى السماء، فقد شاهدوا العنف بأعينهم وسمعوا دوى الانفجارات المفزعة.

تسيطر رائحة الموت فوق جميع الرءوس، وأراد هو الهروب منها. استقل الحافلة بعد انتظار طويل، دفع حوالى 120 دولارا ثمن التذكرة، قبل أن يصل السعر إلى 400 دولار بعد توافد الناس وزيادة الأعداد المتجهة نحو الحدود المصرية السودانية التى تمتد لأكثر من 1200 كم. استمرت الرحلة 13 ساعة حتى اجتاز المعبر، حالفه الحظ، فالبعض وصل متأخرا واضطر إلى استئجار أَسِرة هناك حتى تفتح الأبواب فى الصباح التالى. بعدها توجه إلى قرية وادى كركر النوبية، على طريق أسوان ــ أبو سمبل، ومنها إلى محطة القطار ثم إلى القاهرة بعد حوالى 12 ساعة، وها هو أخيرا فى منزل جدته لأبيه، عفاف المصرية، نائما فى الغرفة البلاط كما كانت تسميها، لأنها الوحيدة التى لم تكسُ أرضيتها بالخشب، بسبب مشاكل دائمة تتعلق بالرطوبة والصرف الداخلى.
• • •

بذكر تيتة عفاف يطمئن قلبه. يؤنسه تردد صوتها فى أذنيه حين كانت تستقبله مرحبة: «حبابك عشرة.. حبابك مليون»، كناية عن كثرة من يحبونه، ثم تمازحه وترقص معه على أغنية «دنجى دنجى» لسيد درويش أو «المامبو السودانى» لسيد خليفة. كانت هذه طقوسهما معا، لكنها ذهبت وذهبت معها، وصار البيت خاويا، يلجأ إليه كلما اندلعت حرب فى السودان. كان شابا حين قامت حرب 1983 والتى استمرت 22 عاما حتى يناير 2005. وقتها نزح 4 ملايين سوادنى وقُتِل مليونان. وقبل أن تنتهى هذه الحرب بسنتين كانت قد نشبت حرب أخرى فى دارفور، أسفرت بدورها عن نزوح عشرات الآلاف، والآن فى ظل الأزمة الحالية تتحدث وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عن احتمالية نزوح 270 ألف شخص إلى دول الجوار.

أهل الخرطوم كانوا يُلقِبون تيتة عفاف بـ«الحلبية» لبياض بشرتها، وهو الآن فى صحبة روحها الزكية. يحاول طرد الأفكار الشريرة من رأسه بإعادة رسم الأمكنة والأزمنة التى مرت. حديث الإنسان عن المدينة التى تعنى له شيئا خاصا يبدو شديد الوعورة، لذا فضل التركيز على بعض الوقائع القاهرية دون غيرها. ربما لم تحصل الأحداث بهذا الشكل تماما، لكنها بدت له على هذا النحو واستقرت هكذا فى ذاكرته، دون أن تكون هناك أية نية أو رغبة بتحويرها. تتلوى الأزقة والمسالك وتؤدى إلى مكان ليس له كيان، كل ما فيه يختلط بكل ما فيه. يمعن النظر فى الأرضية البلاط ذات الأشكال الهندسية، تشبه الموزاييك الشطرنجى الفلورنسى، يتخيل شكل الجدة وهى تجلس هنا فى ليالى مارس ــ أبريل الربيعية لتنشد أغانى حب مرحة بصحبة بنات العيلة. يتذكر أيضا كيف كان هذا البلاط زلقا من شدة حرصها على تنظيفه بفرشاة معينة ودعكه بالخل والبيكاربونات حتى يسطع لونه، وفى النهاية تلميعه بقطعة من الإسفنج مبللة بالليمون. هذا النمل الذى يتهادى حاليا ويخرج من بين الفراغات ما كان يجرؤ على ذلك فى وجودها.
• • •

صورة تطرد أخرى. شكر الله أنه لم ينجب أولادا حينما شاهد الصغار فى حالة ذعر بسبب الأشباح الوطنية، فهذه المرة الأولى التى يذهبون إلى أماكن تبدو غريبة قاسية، والأمهات تستمع خلسة إلى فيديو على اليوتيوب يشرح لهن أداء تمارين لتهدئة القلق، خاصة لدى الأطفال. الحافلات كانت متراصة، مزركشة، مزينة بألوان الفوشيا والبرتقالى والبنفسجى، ومكتوبا عليها: "ما شاء الله.. يقينى بالله يقينى.. أين البركة؟".. أين؟ من تلك اللحظة بدأ يتوه ولا يستطيع أن يعثر على سبب واضح لما اعتراه، وكأنما قد حدث كل ما حدث وهو نائم يحلم بأن شيئا مما رآه لم يحدث. لا يمكن أن يكون محايدا ويتظاهر بأن هذه الحرب لا تهمه، بأن الموت والنزوح والمعاناة وخطر التقسيم لا يصيبونه بالكوابيس. تقارير نقابة الأطباء فى السودان تقول إن 69% من المستشفيات هناك توقفت عن العمل، وإن أكثر من 15 مليون شخص بحاجة للمساعدات، أما هو فقد نجا بحياته ويحملق فى البلاط، ذلك بعد أن وجد نفسه محاصرا وسط الرصاص، بلا كهرباء ولا مياه ولا إنترنت. خلال ساعات تغيرت حياته، بعد أن كانت لديه خطط لقضاء عيد الفطر وأخرى للعمل فى ميناء بورت سودان بعد تطويره، إذ تتنافس عليه الدول الغنية بالمنطقة وبعض القوى الدولية لأهميته الاستراتيجية وحماية أمن البحر الأحمر.
• • •

ربما فشلت خططه هو الشخصية، لكن ذلك لا ينطبق بالضرورة على خطط الآخرين. يهرب من تاريخ بلاده المعقد والمطامع التى تحيط به إلى بلاط الحجرة التى احتمى بها ورسوماته التى أصابها تعريج الزمن. تاريخ هذا البلاط ارتبط بمصر والعراق وبلاد فارس منذ القرن الثالث قبل الميلاد، انتشر بعدها الخزف الملون بالأبيض والأزرق من العراق إلى مناطق مختلفة فى الشرق خلال القرن التاسع الميلادى، ومنها إلى الأندلس ثم أوروبا، وشاع استخدامه فى بيوت مختلف الطبقات خاصة مع الثورة الصناعية فى القرن التاسع عشر، وها هو الآن يشغل تفكير نازح من السودان يحاول أن يلتهى بحكايته. صار هو شخصيا يعيش على البلاط.
التعليقات