لا فتَة فى مطابخ نيويورك - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 2:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا فتَة فى مطابخ نيويورك

نشر فى : الأربعاء 29 يونيو 2016 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 30 يونيو 2016 - 4:27 م
فى عشاء فى نيويورك، أنظر إلى المائدة باهتمام علنى أفهم نتاج مراسلات طويلة بين صاحبة الدعوة وبين تسعة أشخاص مدعوين، وأنا من ضمنهم، إلى عشاء فى بيتها هذا الأسبوع. ففى الأسبوعين الأخيرين، تبادلنا ما لا يقل عن خمس عشرة رسالة جماعية لتحديد ضوابط هذا العشاء. لم تكن هذه ضوابط سياسية أو أدبية، فالمراسلات لم تكن حول المواضيع التى تنصح صاحبة البيت بتجنبها أثناء الطعام تلافيا للتوتر، ولم تكن أيضا حول ما إذا كنا مدعوين على العشاء مع الأزواج أو الأطفال، كما لم تكن المراسلات حول عنوان المنزل أو ساعة التواجد، فذلك كان واضحا منذ الرسالة الأولى التى حددت فيها صاحبة الدعوة كل هذه التفاصيل.

المراسلات والأسئلة والاقتراحات، ثم الاقتراحات المضادة والوصفات والاعتذارات، ثم تأكيد المعلومات، فتأكيد حضور الأشخاص، دارت كلها حول الطعام المزمع تقديمه فى اليوم المتفق عليه، إذ أن صاحبة الدعوة كانت قد أنهت رسالتها الأولى بسؤال المدعوين عما إذا كان لديهم أى حساسيات مرتبطة بالطعام، أو أى طلبات خاصة مرتبطة بضوابط دينية أو ثقافية، تمنعهم من أكل أنواع من الطعام حتى تتفاداها صاحبة الدعوة أثناء الطبخ.

بدأ النقاش بين من لديه حساسية من الفستق السودانى والجوز، ومن هى نباتية لا تأكل اللحم، ومن لا يستحمل الألبان ومشتقاتها، بالإضافة لمن لا يأكل القمح ومشتقاته بسبب ابتعاده عن مادة الجلوتين لأسباب تتعلق بعدم قدرته على هضمه، ثم مع إفصاح إحداهن أنها أكثر من نباتية فهى لا تأكل أى مادة مصدرها حيوانى، ثم المدعو الذى سأل إن كان ذبح اللحم قد تم حسب الطريقة الإسلامية، أى أنه لحم حلال، والمدعوة الأخرى التى قالت إنها يهودية لذا فهى تأكل اللحم الكوشر، ولكنها ممكن أن تأكل الحلال لأن طريقة الذبح متشابهة، بين كل هذه المراسلات والأسئلة والاقتراحات سألت نفسى عن تشكيلة الطعام التى سوف تناسب الجميع فى آخر المطاف.

***

الحوار قد يظهر لوهلة أنه كوميدى أو جزء من مسرحية، قد يبدو أنه حوار تعجيزى، والغرض منه إفشال العشاء أو حث صاحبة الدعوة على سحب دعوتها والاعتذار أصلا عن إزعاجنا. لكن المراسلات كانت جدية وودية وصريحة، وكان الهدف منها فعلا التأكد من أن الخيارات سوف تناسب الجميع ولن تزعج أحدا أو تهين معتقداته.

أتابع النقاش الإلكترونى وأنا أتعجب لقدرة صاحبة الدعوة على إعداد مائدة طعام تستوفى كل هذه الشروط، وأيضا على قدرة كل ضيف أن يحدد وبشكل واضح وصريح وبعيدا عن المجاملات ما يحب وما لا يحب، أو ما يستطيع أكله وما لا يستطيع. فلكل تحديد من الاثنين اعتبارات ثقافية أو دينية أو صحية تشكل جزءا من هويتهم وشخصيتهم. أتذكر بعض التعليمات التى كنا نأخذها فى صغرنا من كبار العائلة، فنحن نقبل ما يضعونه أمامنا فى الصحن ولا نقول عن أى طعام أننا لا نحبه ومن ثم لا نأكله، بإمكاننا أن نتركه فى جانب الطبق دون أن نعبث به ولكن الأفضل هو أن نكمل كل ما تم غرفه أمامنا دون أى جدال.

***

أتساءل عن معنى أن يشعر أحدنا أن من حقه أن يعبر دون خجل عن طعامه المفضل، أو عما يجب أن يتفاداه من مواد غذائية حتى وإن حمل ذلك مدلولا دينيا بدا من خلاله أنه مختلف عن باقى الحضور، أتساءل عن مفهوم تطور احترام الآخر لدرجة أن نسأل، وبشكل واضح، إن كان وجود مادة على الطاولة من شأنه أن يزعج أحدهم. أعيد النظر فى أسماء المجموعة كما تظهر أمامى فى الرسائل الإلكترونية فأرى أن لمعظمها رنة غريبة، وعلى الأغلب هى من أصول جغرافية وعرقية مختلفة.

أبتسم وأنا أحاول أن أركب فى عقلى سفرة متكاملة تلبى جميع هذه الطلبات، لو كنت مكان صاحبة الدعوة هل كنت سأحدد طبخة لكل شخص، أم أننى كنت سوف أحاول أن أجمع بين عدة طلبات فى طبقين أو ثلاثة؟ أضحك سرا وأنا أفكر فى إحدى أقرب الطبخات إلى قلبى، فتة الدجاج، وكيف أننى لو كنت صاحبة الدعوة فإننى على الأغلب كنت أكلتها لوحدى دون أى يشاركنى فيها أحدا. فالخبز المقرمش فى القاع لا يناسب من لا يأكل القمح، والأرز المطبوخ بمرقة الدجاج لا يناسب من هى نباتية، أما الدجاج فهو حلال لكن اللبن الزبادى الذى يغطى كل المكونات لن يناسب من لديه حساسية من منتجات الألبان أومن لا يجمع فى أكله بين نتاج روحين، وكذلك اللوز والصنوبر المقلى والمرشوش على وجه الطبق قد يسبب حساسية لمن لا يأكل الفستق والجوز.

***

جميلة هى حرية الرأى وحرية التعبير، إنما للاثنتين ثمن وهو أن نكون مستعدين لاحترام هذه الرغبات حتى لو جاءت على حساب راحتنا. رائع هو الشعور بأنه يجب أن يتم احترام رغباتنا، إنما يأتى ذلك مع إيماننا نحن ذاتنا أن للآخر أيضا رغبات يجب احترامها، أو على الأقل يجب علينا أن نحاول التوفيق بين ما نريد وما يريد الآخرون.

هكذا فى نيويورك، فى بلد تطورت قوانينه بشكل فرض احترام الشخص بمكوناته الدينية والعقائدية، طالما لم يؤثر ذلك على دوره فى المجتمع، ولم يوقف الشخص عن أداء واجباته كمواطن مثل غيره، أجد نفسى على مائدة عشاء أتعامل معها على أنها مائدة إفطار، فوقت العشاء والإفطار هنا واحد، وقد انتظر باقى المدعوين وقت الإفطار لنجلس جميعا حول الطاولة الممدودة، وأنا أفكر بصحن الفتة الذى لن أتمكن من طبخه لعشاء كهذا.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات