كل الطرق تؤدى إلى البزورية - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الإثنين 2 ديسمبر 2024 3:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كل الطرق تؤدى إلى البزورية

نشر فى : الأربعاء 29 يوليه 2020 - 6:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 29 يوليه 2020 - 10:55 م

لكل دمشقى محله المفضل فى سوق البزورية. لكل زائر لدمشق صورة تذكارية مع تلال البهارات الملونة المصفوفة بعناية عند مداخل المحلات فى البزورية. لكل شخص مشى فى أزقة السوق الضيقة ذكرى ضيافة من المحلات، يخرج الزائر من السوق حاملا بيديه حبات الحلوى بالفستق والسكاكر الملونة وربما نصف أوقية زعتر كنوع من الضيافة أيضا.
***
سوق البزورية، نسبة إلى كلمة «بذور» هو مغارة على بابا بالنسبة للسوريين. فيه كنوز طريق الحرير كلها وجمال مدينة لم تتوقف فيها الحياة قط منذ ولادتها. فى سوق البزورية يجد كل زائر ضالته حتى لو خرج بضالة غير تلك التى جاء باحثا عنها، فثمة سحر تحت رائحته رائحة القرفة والكمون، تحوم حول الزائر وتنسيه أنه ابن اليوم ليصبح ابن اللحظة، لحظة وصول قطرات ماء الزهر إليه لتسحره.
***
لن يتذكر الزائر حياته قبل سوق البزورية، فهنا حطت القافلة وهنا فرش التجار ألوانهم وروائحهم وطعماتهم. هنا دق الخيل بحوافره على الزقاق القديم فاختفت زمامير السيارات. هنا توقف الزمن بعد أذان العصر فالزمن فى البزورية لا قيمة له أمام روائح القرنفل والفلفل الأسود والبابونج وأمام صور العيد الذى تعبر عن بهجته مكعبات صابون الغار الذى كان تستحم به جدتى.
***
لا سوق يسبق سوق البزورية فى قلبى فهو يختصر دمشق: مكتظ بالكرم والحب وحسن الضيافة، ملون بألوان قوافل حملت الأحمر والأصفر والبرتقالى من الهند والصين، «تفضلى يا ست ما تشترى بس خذى كمشة فستق محمص، الرسول قبل الهدية تفضلى لا تخجلى.» فواكه الغوطة بأشكالها معقودة بالسكر ومصفاة حبة حبة تمتد إليها الأيادى دون تفكير. أزقة ضيقة فى مساحة صغيرة تعج بمحلات بضاعتها متشابهة لكن لا خلاف بين أصحابها على الرزق، وقد قيل يوما أنه فى الشدائد كان يرفض تاجر السوق أن يبيع أكثر من زبون إن لم يبع جاره أحدا فى اليوم ذاته، أى أنه كان يكتفى ببيعة واحدة حتى يبيع جيرانه ثم يستأنف هو. لا أعرف مدى صحة هذه القصة، فكما قصص كثيرة سمعتها من الدمشقيين القدامى، قد تكون فعلا من أخلاق من سبقونا أو قد تكون من نسيج خيال أهل المدينة الذين يشهدون منذ قرابة الخمسين عاما على تدهور عاصمتهم فتمسكوا بقصص سمعوها أيضا ممن سبقوهم.
***
يربط سوق البزورية بين شارع مدحت باشا أو «الطريق المستقيم» وهو أطول طريق مستقيم فى دمشق القديمة وبين أجزاء كثيرة من دمشق القديمة، فهو يصل بالزائر إلى الساحة التى تربط الجامع الأموى بمدخل سوق الحميدية مرورا بالأقواس الرومانية فى نهاية الحميدية. لطالما شعرت أن جميع الطرق فى المدينة القديمة تصل إلى البزورية، لا مفر من المشى خلف رائحة الغار والقرفة، كالمغنطيس، يسحب سوق البزورية أى شخص فى نطاق المدينة القديمة ولا يترك الزائر بحاله. أصوات النساء من المتبضعات تصدح فى محاولات أغلبها بحكم العادة لإنزال سعر ما تردن شراءه، والباعة يماطلون العملية ويعرضون ضيافة ويعدون السيدات بجودة أفضل تبرر الزيادة فى السعر.
***
احترقت أجزاء من سوق البزورية هذا الأسبوع شعرت معها بأجزاء من قلبى تنفك عنى وتقع فى مستنقع الحرب السورية التى لم أعد قادرة على فك طلاسمها. فقد السوريون على مراحل الكثير مما كان يمثل لهم البيت والبلد والانتماء، وغاب الأحبة عن البلد وأحيانا كثيرة عن الدنيا برمتها فهل من حقى أن أتحسر على شوارع قديمة وتلال من البهارات حين يتحسر غيرى على آباء وأخوات ابتلعتهم السنوات الأخيرة؟
***
لا منافسة فى الفقدان ولكل منا أسبابه للحزن. حريق فى البزورية يشبه بالنسبة لى إضرام النار وسط منزل العائلة ورمى الذكريات فيه لتغذى اللهب وتحول أجزاء من تاريخ وحاضر المدينة إلى رماد. رماد للذاكرة يطير فوق حياتى الحالية البعيدة كل البعد عن سوق البزورية حتى أننى بدأت أفقد بعض التفاصيل بحكم الزمن وطبقات الدمار وقصص من رحلوا. أحزن وألوم نفسى حين تخذلنى الذاكرة وأتوه فى دهاليز البزورية حين استحضرها فأنسى اسم الدكان لكنى أتذكر صاحبه ورائحة الفل الذى كان يصر أن أشتريه لأعطر به خزانة البياضات كما نسميها فى الشام. «رشى قليلا من عطر الفل على قطنة وضعيها بين أشيائك فى الخزانة وادعى لى» يقول وهو يعطينى قطنة معطرة حتى أقتنع.
***
ها أنا أدعى لك بالصحة أو بالرحمة فأنا لا أعرف إن كان العطار حيا أو بين الأموات، بعد أن مرت السنوات والحرب فوق سوق البزورية وفوق كلمات أصحاب الدكاكين ورمت بالسكاكر فى النار. أقرأ عن حريق سوق البزورية وأشم رائحة القرفة، أسمع استغاثة أصحاب الدكاكين فأرى أفواههم حين كانت تجذب المشترين بلطفها وكرمها.
***
قليلة هى المرات التى قصدت فيها سوق البزورية عمدا، غالبا ما كان السوق هو الذى يقصدنى فأغير من طريقى حتى أمر به. تلك الأزقة هى قلب دمشق، والروائح هى قرون من السخاء والكرم حتى فى أحلك الأوقات. قال سعيد عقل إن الصباح ينهمر من دمشق. بالنسبة لى الصباح ينهمر من البزورية، فكل الطرق تؤدى إلى البزورية.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات