القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 6:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود

نشر فى : الثلاثاء 29 أغسطس 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 29 أغسطس 2017 - 9:35 م
الأزمة الاقتصادية المصرية ألقت بظلالها على الأسرة والفرد المصرى وأحس الكثيرون بقيد واقع على معظم طبقات المجتمع والذى يفرض أسلوب حياة جديدة على الجميع. وهو أمر مقلق فى بلد يقع ٢٠٪ من مواطنيها تحت خط الفقر، ويعانى ٢٣٪ من أطفالها قصر القامة نتيجة لسوء التغذية المزمن، ويعانى أكثر من ٣٠٪ من مواطنيها الأنيميا نتيجة نقص الحديد فى الغذاء. والأزمات الاقتصادية تنتج عن قرارات وممارسات سياسية متتالية، يدفع ثمنها الشعوب وهو ثمن غال، خاصة على الفئات الأقل حظا. 
اللحظات الصعبة فى حياة الشعوب فرصة للتعلم (وأنا هنا لا أحاول أن أضفى على العوز والفقر جوا رومانسى، فالفقر يقهر ويذل) فقط أحاول أن أمارس النقد الذاتى على نفسى ومجتمعى علنا نخرج من المحنة أقوى مما دخلنا. وهنا أتذكر مقولة لجدتى الحكيمة «القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود»، وأظن آن الأوان أن نطبقها ليس فقط كثقافة مجتمعية وإنما أيضا كمسئولية نحو الوطن والبيئة والكوكب الذى نتعامل معه وكأن خيراته لن تنضب. 
فى أوروبا وبعد الحرب العالمية الثانية ضربت الحرب بلدانا كانت بالكاد بدأت تتمتع بثمار الثورة الصناعية، وذاقت السلم والعدل الاجتماعى الذى بدأ يترسخ مع ظهور وتطور الديمقراطية الاجتماعية ونضجها؛ والتى ضمنت السوق الحرة المشجعة للإنتاج والمنافسة مع حماية الدولة لحق كل مواطن فى التعليم الجيد والصحة والسكن وزادت القدرة الإنتاجية والجودة مما نقل شعوب هذه البلدان نقلة اقتصادية واجتماعية بعد سنوات عجاف أثناء الحرب العالمية الأولى. اندلعت الحرب الثانية واستنزفت أوروبا اقتصاديا ونفسيا وتعلمت هذه الشعوب أهمية الحفاظ على مكتسباتها، حيث كان يصرف الأكل للفقير والغنى بالكوبون بعد الوقوف فى طوابير طويلة وهو ما انطبق على كل أساسيات ورفاهيات المعيشة من مياه وكهرباء ودواء ولعب أطفال وملابس وكل ما يستخدمه الإنسان فى حياته اليومية سواء كان شحيح أو ثمين. واستمر تحدى الأسر فى الحفاظ على ما هو متاح لخلق حياة فيها صحة وراحة وجمال بعد انتهاء الحرب وزوال الأزمة الاقتصادية.

***

إذا أخذنا السويد نموذجا حيث إنها لم تشارك فى الحرب لكنها عانت من أزمات الثلاثينيات والأربعينيات الاقتصادية، ولأن الديمقراطية الاجتماعية حكمتها ما يقرب من ٦٠ عاما على مدار القرن الماضى، وأسست مفهوم «دولة الرفاهة»/ The welfare state لتحمى الفئات الأضعف وترفع الطبقات الأقل حظا مقابل هذا يدفع المواطن ضرائب تتراوح من ٣٠ــ٨٠ ٪ من الدخل حسب الشريحة التى يقع فيها، وكلما تحدثت مع سويدى شكا لك من الضرائب العالية، ثم كلما جاءت الانتخابات النيابية اختار الحزب الديمقراطى الاجتماعى أو أحد الأحزاب القريبة منه لأنه يعلم أن ضرائبه مستثمرة فى خدمات يلمسها هو وكل أفراد أسرته تحميه من العوز أو الذل إذا ما حدث لرب الأسرة أى كارثة.
إذا زرت السويد تراها صورة من الرفاهية والغنى، وإذا راقبت المواطن السويدى تجده شديد الحرص فى الاستهلاك، حرص يبدو للزائر من بلد مثل مصر بخلا، لكن عندما تقترب من الحياة اليومية تكتشف أنها فلسفة ولدت من تجربة العوز، فثلث سكان السويد هاجروا إلى أمريكا هربا من الجوع والفقر ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هذا بالإضافة إلى ذكرياتهم عن الحرب الأولى والثانية، أضف إلى ذلك: وعيا عاليا بقيمة البيئة وإحساس بالمسئولية تجاه الأجيال القادمة ليس فقط فى السويد وإنما فى الكوكب، فالبيئة مقدسة، الغابات والبحيرات والهواء والحيوانات والطيور لها قدسية، والثقافة تحتم على كل جيل تسليمها بأحسن حال إلى الأجيال التالية. والقانون السويدى يكفل لكل مواطن حق التمتع بالطبيعة، فمساحات شاسعة من غابات السويد مملوكة لأفراد وليس للدولة، ولكل مواطن سويدى من حقه أن يتنزه فيها وأن يسبح فى بحيراتها ويصطاد السمك منها، ومسموح أن يقطف كل ما هو قابل لإعادة الطرح مثل عش الغراب أو التوت بأنواعه أو حتى الورد البرى، لكنه غير مسموح أن يقطع شجرة أو يصطاد حيوانا بريا، والقانون يعاقبه عقابا قاسيا إن ترك قمامة أو تسبب فى أذى للبيئة.

***

كل الموارد غالية وتستحق الحفاظ عليها؛ فالخضار والفاكهة واللحم والفراخ كله يشترى بالقطعة وليس بالكيلو حرصا ألا تهدر منه ثمرة واحدة. غسيل الأطباق ــ علما بأن السويد بلد بها أمطار غزيرة و ليس بها فقر مائى ــ يتم بملء الحوض بماء لغسل كل الأطباق مرة واحدة ثم تشطف حتى لا تهدر المياه الجارية. معظم الأسر بها سيارة واحدة فقط يتناوب عليها أفراد الأسرة ويبذل الكل جهدا أن ينسق مع الأصدقاء للتحرك بسيارة واحدة أو يستخدمون المواصلات العامة ــ وهى مريحة ومنضبطة فى مواعيدها وتصل إلى معظم الأماكن البعيدة فى أنحاء السويد وغالية لكنها ليست أغلى من بنزين السيارة_، المشى أو ركوب العجل يعتبر اختيارا بيئيا يمارسه المواطن يوميا، بمعنى أن الضمير المجتمعى يعتبر خروج شخص واحد بالسيارة الشخصية أمر منتقد، ويضع عليه ضغط أن يستخدم المواصلات العامة لتقليل العادم أو أن يتفق مع جيرانه أو زملائه فى العمل أن يتحركوا فى سيارة واحدة، وأى شخص يستطيع أن يمشى أو يركب العجل يفعل ذلك سواء بغرض الرياضة أو لأنه أرخص كثيرا أو لأسباب بيئية. 
معظم الأسر تحافظ على ملابس الأطفال بعد أن يكبروا وتورثها لأخواتهم أو أقاربهم، وليس فى ذلك أى عيب ولا هو موصوم بوصمة العوز، وقت الإنسان له قيمة وساعة عمله لها ثمن وبالتالى إهدارها هو إهدار لهذا المبلغ، ولهذا فالمواعيد منضبطة. الحياة بسيطة فقلة من هم يهتمون أن يحملوا حقائب يد غالية أو يلبسوا ملابس عليها علامات تجارية تنم عن ثمنها وفى أوساط كثيرة خاصة أوساط الطلبة والأكاديميين والمثقفين فمثل هذه الملابس إنما تنم عن رغبة فى التباهى والاستعلاء وينظر إليها بشكل سيئ فالملابس والسيارات... إلخ تشترى لجودتها وليس لشارتها.

***
السويدى إذا تنزه نزل إلى طبيعة وأخذ معه أكلا من البيت وقلما أكل فى مطعم، كما إن إيصال الوجبات السريعة إلى منزل أمر غير متاح. والحقيقة بخلاف ما قد يبدو لمن هم من ثقافتنا الشرقية ليس فى هذه التصرفات رائحة البخل، لأن معظم الأسر تتبرع شهريا لجمعيات تخدم أطفال فقراء أو الصليب الأحمر أو جمعيات أخرى؛ فالغالبية العظمى أعضاء أو متطوعون فى حزب وجمعية أو أكثر، أو قد تتبنى أسرة لديه بالفعل أطفال من صلبها طفل فقير أو يتيم من إحدى بلدان آسيا أو أفريقيا. وهو أمر شائع؛ لأن فلسفة الالتزام المجتمعى ودولة الرفاهية تمتد عبر حدود البلدان فيشمل أطفالا وبيئة الكرة الأرضية.

الاستدامة الاقتصادية للأسر والأوطان تتطلب الحفاظ على الموارد المتاحة، وجودة حياتنا مرتبطة باختياراتنا المبنية على التفكير فى الأجمل والأجود والأصح دون هدر واستدامتنا على هذا الكوكب تتطلب الحفاظ على خيراته، حتى يذكرنا أبناؤنا بالخير.

 

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات