اغتيال خط السماء.. والأرض أيضًا - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اغتيال خط السماء.. والأرض أيضًا

نشر فى : الثلاثاء 29 أكتوبر 2019 - 10:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 30 أكتوبر 2019 - 1:43 م

كل خط يكتب كلاما مغايرا عن الآخر فالخط الذى تشكله رأسيات رشيقة لمنارات المساجد (لبعض الصوفية قول جميل فيه «العالم كله ألفات» (جمع ألف) والألف هنا رمز أو إشارة لله)، وبه تكسيرات أفقية لأسطح البيوت مع بعض المنحنيات الصغيرة سواء لقباب الأولياء أو غيرها ــ يكتب كلاما يقرؤه من يراه غير ذاك الخط الذى تعلو فيه.
الرأسيات الغليظة للمساكن أو ربما للمكاتب والشركات تكتب كلاما آخر عن المال والثروة وسيطرتهما على المجتمع. كنت أتعرف على مدينة القصير وأنا على بعد كيلومترات عديدة عندما أجد ذلك الخط المائل المركب والذى يتكون من هياكل معدنية فى أقصى شرق المدينة يظهر معلنا وجود شىء مختلف مثل البرج الحديدى والذى كانت تتم به واحدة من أولى مراحل التعامل مع الخام المنقول من المناجم وفى طور المعالجة قبل تصديره على أرض المصنع التى تطل مباشرة على البحر الأحمر. ميزت هذه الهياكل والبرج المعدنى لعقود طويلة خط سماء مدينة القصير ليسطر جملة مركبة عن مدينة امتدت فيها الصناعة لعقود طويلة وكانت سببا رئيسيا فى نمو المدينة فى القرن العشرين من مبتداه فى العقد الثانى وحتى أغلق مصنع الفوسفات وقام بتسريح عماله وموظفيه قرب نهاية القرن وخاصة بين العامين السادس والتسعين والثامن والتسعين.
ولأنى أزور المدينة أنا وطلابى كثيرا وخاصة على امتداد هذا العام الدراسى الذى بدأ للتو حيث ندرس إشكالية المياه فى المدينة ونحاول أن نحيط بأبعادها وكيف يمكن لنا التعامل معها حتى نستطيع أن نساهم فى حل أحد أكبر التحديات التى تواجه مدينة لا تطلب إلا عيشا لائقا. وكانت آخر زيارة لنا فى أول النصف الثانى من شهر أكتوبر الحالى وأحسست أولا أن هناك شيئا ما غائبا. ثم ما لبثت أن صدمت بأن هناك من قام بفك الأجزاء المعدنية من عدة أماكن فى داخل المصنع وهى تلك التى نادى الكثير من قبل بأنها جزء لا يتجزأ من تراثنا لأن تراثنا ليس ببساطة معابد وقصور ولكنه أيضا مصانع وخاصة تلك التى أنشأت فى نهاية القرن التاسع عشر ونهاية القرن العشرين. ولكن يبدو أن هناك من أصر ولا يزال على تفكيك هذا المصنع الذى ولا شك تتعدى فيه قيمة الحديد سعر الكيلوجرام للخردة لما قد يقارب مئات الأضعاف لما له من قيمة تاريخية وارتباطات محلية ودولية. ويبدوا أن هذا أو هؤلاء الذين يسعون لتحويل مكان المصنع الذى كان مولد الوظائف الرئيسى للمدينة لعقود طويلة والذى كان أحد أسباب نهضتها وهجرة بعض من أهل الصعيد للعمل بها (قدرنا فى دراسة سابقة أن عدد الوظائف داخل المصنع كانت نحو ألفى وظيفة بالإضافة إلى عدة آلاف أخرى فى مواقع المناجم القريبة من المدينة). يصر بعض المسئولين للأسف على تحويل أرض المصنع لمنطقة سياحية على أن يجلب لهم ولمصر الرخاء وبالرغم من ثبوت فشل الرهان على السياحة كمصدر رئيسى ومستدام للدخل على الأقل فى محيط مدينة القصير فما زالت تلك الأفكار تراودهم فى غياب نقاش حقيقى على ما يجب عمله ونقاش آخر عن معنى ومتطلبات المسئولية.
لا شك بالنسبة لى أن المسئولية هى أولا الحفاظ على مواردنا وخاصة تلك التى لا يمكن استبدالها والتى لها قيمة خاصة مثل هذا الهيكل المعدنى المغتال وهناك أيضا مسئولية عن تعظيم الفائدة من تلك الموارد وهو عمل كبير مبنى على الأدلة وليست أفكارا منقولة من أماكن أخرى ومبنية على تمنيات. فى أحد مدن منطقة الرور فى ألمانيا تم تحويل أحد مصانع الحديد التى كانت تعمل بالفحم إلى أحد المراكز الثقافية الكبرى ومتحف صناعى رأيت فيه المئات من السائحين عندما زرته ولنا فى جامعة القاهرة مقترح لتحويل تلك المنطقة الصناعية إلى مكان منتج ونظيف يعتمد على الطاقات المتجددة ويحول ذلك الهيكل المعدنى إلى جزء من متحف صناعى تعليمى. هناك الآن فى الأدبيات الخاصة بالمسئولية (على الأقل أخلاقيا) ما يسمى بالمسئولية عن عدم الفعل. والتى يمكن بوضوح فهمها فى ضوء ما نعانى منه ليس فقط من الأفعال التى لم يتم دراساتها بصورة صائبة وجادة ولكن أيضا من نتائج عدم الفعل وليس موضوع المياه أو التعليم منا ببعيد.
أرى فى مدينة القصير مدن مصر بتاريخها وبعض الجمال الذى ما زال يقاوم ويأبى أن ينهزم أمام بحار القبح (ذهلت أنا وطلابى فى مسيرة من أيام قليلة فى المتحف المفتوح لمدينة أون فى حى المطرية بالقاهرة من أن المدرستين المجاورتين يرزح أمامهما تلال صغيرة من القمامة ذات رائحة لا تطاق والتى حولت الشارع المفترض أن يكون أفقيا إلى خطوط منحنية وبارزة وقلت لهم تخيلوا أى إنسان يتخرج بعد تعليم من عدة سنوات اعتاد فيها على رؤية هذا القبح والقذارة وكيف يمكن له أو لها أن يرى العالم من حوله).
وقلت لهم كان الله فى عون المسئول عن حى المطرية عندما يسأل عن تلك المسئولية (فى الحياة الآخرة فى الأغلب) ولكنى كنت أتمنى أن يكون لدى مدير أو مديرة المدرسة الشجاعة للتعامل مع هذا التل من القبح الذى لا يهدم فقط أى تعليم ولكن يغرس من السيئات الكثير.
ليس فقط خط السماء ما يجب أن ننظر إليه ولكن قبله خط الأرض.

 

تصوير الكاتب في 18 أكتوبر 2019 (تم إزالة البرج في الفترة ما بين منتصف سبتمبر ومنتصف أكتوبر)

 

"صورة للهيكل والبرج تصوير أحد الطلاب فى مارس 2017 للقاعدة الخرسانية للهيكل والبرج المعدنى"

التعليقات