تعيش مصر حالة اللايقين بدرجات متفاوتة منذ خلع الرئيس الأسبق مبارك وحتى الآن، وتجد هذه الحالة الأرض الخصبة لها كلما زادت حدة الاستقطاب في المجتمع، وكلما كان هناك مناخ جاذب للمعلومات المغلوطة والشائعات التي يحاول كل طرف أن يبني عليها وجهة نظر تدعم موقفه، وهو ما تعيشه مصر الآن بحالة لايقين متزايدة في الحاضر ومثيرة للقلق في المستقبل، وهذه الحالة من اللايقين جعلت إنسانيتنا للأسف تتلاشى مع الوقت وتتوارى وتصبح في المقعد الأخير من حديثنا وتطلعاتنا ومن نميمة برامج التوك شو.
سياسيًا، كل طرف من الطرفين، لو حصرنا الصراع فرضًا بين طرف مع الإخوان أو مع مرسي وطرف آخر مع ماحدث في 30 يونيه ويدعم الجيش دعمًا كاملًا، تجد كل طرف يحاول أن يأخذ جزء من الحقيقة كي يعممه، وينشره قدر الإمكان، ويُكوّن كل طرف صورة واحدة وحيدة أحادية هي بالتأكيد ليست الصورة الكلية، وكل طرف ينكر تمامًا أخطائه أو يبرر أخطائه بسبب أخطاء الطرف الآخر، أو يبرّر عنفه المتطرف بسبب تطرُّف "البعض" العنيف.
وتحوّل الصراع مع "الكل" المختلفين معنا من صراع حدود إلى صراع وجود ومن معركة مع البعض إلى حرب مفتوحة مع الكل، وتحوّلت الإستراتيجية إلى "مَن ليس معنا فهو بالضرورة ضدنا"، وتحوّل المزاج العام إلى "مَن يحاول أن يواجهنا بأخطائنا يقف في خانة عدونا"، وذلك أمر خطير، لأن المعركة ليست ضد "كل" المختلف معنا طالما لم يشجع العنف أو يمارسه، وبذلك يحاول كل طرف الابتعاد قدر الإمكان عن دائرة الأخطاء، وتفادي الاعتراف بأي خطأ تمّ، وهو ما يُنذر بإعادة إنتاج الماضي ويهدد بأننا نتقدّم خطوة ولكن إلى الخلف.
ومادمت أنت لا تقف مع أحد الطرفين مقتنعًا بأن لهم ما لهم وعليهم ما عليهم سوف تتحول مع الوقت في نظر هذا المجتمع القابع في تلك الثنائية الجامدة إلى طابور خامس أو خلايا نائمة أو بائع لدينك أو بائع لوطنيتك، وهو نوع من الإرهاب النفسي الخفي الذي يمارسه المجتمع على كل رأي مختلف معه أو خارج تلك الثنائية الجامدة.
هؤلاء الذين يقفون في تلك المسافة الفاصلة بين قناعاتهم وبين هذه الثنائية الجامدة، لا تعني قناعاتهم أبدًا تشجيع إرهاب البعض أو عنفهم المتطرف، بل ينددون بذلك وينادون بمواجهة الدولة لكل عنف بكل حزم وحسم وذلك بأداوت الدولة وما تمتلكه من آليات تنجح في القضاء على العنف دون أن تتسع حصيلة القتلى أو الجرحى لعدد كبير من الأبرياء.
هذه المسافة التي تريد أن تحافظ على دور الجيش كمؤسسة وطنية لها دورها الأساسي بعيدًا عن السياسة، جيش في صدارة أي معركة وطنية مع قوى الخارج أو قوى الداخل المتورط في العنف أو الإرهاب، وكذلك هي مسافة لا تعترف بشيطنة كل الإخوان طالما أن بعض منهم اعترف بأخطاء ما مضى وندّد بالعنف واختار أن يعود لمصر المجموع ويبتعد عن مصر الجماعة التي باتت جزء من الماضي الذي لا ولن يعود !
وقد تعلمنا من دروس الماضي القريب أن المسمار الأكبر في نعش مبارك وحكمه كان عناده وإنكاره لأخطائه وأخطاء نظامه وكذلك فعل الإخوان ولم يتعلموا من درس يناير، بل وتمادوا في إنكار أخطائهم ووصل بهم العناد إلى إعتبار أن كل ما حدث في عهد الرئيس السابق مرسي هو محض مؤامرات، وهي ليست إلا إجابات مريحة لهم كي يرفعوا عن أنفسهم حرج الفشل بإعلان أن ما حدث أثناء حكمهم من فشل ليس إلا إفشال لهم، وهم سقطوا من التاريخ ولن يعودوا إليه لأنهم مازالوا يقفون عند نقطة من الماضي تجاوزها الحاضر بكثير.
جاءت ثورة يناير بالأساس من أجل أن تنصف الإنسان المصري بغض النظر عن توجهاته السياسية أو انتماءاته وتبشر بعهد جديد من المواطنة الحقيقية، ولأن نظام مبارك همّش الإنسان المصري وجرّف كل أرضٍ خصبة كي تنبت الأرض المصرية بمَن يستحقها من أولادها سقط في غمضة عين، وكذلك فعل الإخوان في بعض مواقفهم بإنحيازهم إلى الإنسان المصري الإخواني عن غيره من المصريين وهو إنحياز مريض إلى مجتمع ضيق لا يعبر بأي حال من الأحوال عن كل المجتمع، وهو ما جعل البعض بعد سقوط نظام الإخوان يتعاملون معهم باعتبارهم غير مصريين بل وينتزع البعض منهم إنسانيتهم كي يبرر لنفسه مواجهتهم بغاية تبرر الوسيلة !
قناعتي بأن الإخوان سقطوا وانتهوا، وعلى الدولة المصرية أن تتعامل مع ذلك الأمر بأن نتحدث عن المستقبل أكثر من حديثنا عن الماضي حتى ولو كان بالحاضر شوائب مما مضى، وأن نرى دستور أكثر تعبيرًا عن كل المصريين وتطلعاتهم ويوفّر الحياة الكريمة لكل المصريين، وأن تواجه الدولة أي عنف بقوة دون أن تتسع دائرة العنف لمَن لا يستحقه، وأن تترك الدولة المصرية الباب لكل مَن يريد أن يعود لمصريته معترفاً بأخطائه ومعلنًا عن تنديده لكل العنف وراغبًا في العودة إلى مصر المجموع وليس مصر الجماعة.
الأنسنة هي مفتاح المستقبل الذي نتمناه، وهي الأداة الفعّالة كي نختبر خطواتنا في الحاضر، وهي الآلية الناجزة في تحرير الإنسان المصري من أي قيود، لأن الثورة المصرية في يناير قامت بالأساس من أجل تحرير الإنسان، لأن مصر كلما امتلكت إنسان حر استطاعت أكثر بناء مستقبل واعد، مستقبل لا يحتكره أحد، مستقبل أفضل لكل المصريين فيه الإنسان هو ثروة الوطن الحقيقية، لأنه لا قيمة لوطن حر يحمل على أرضه إنسان عاجز مُقيّد مُستباح، الأنسنة هي الحل.