بعد عامين على الثورة المصرية، بدت الثورة تنحسر ويتم تفكيكها من مطالبها المشروعة والشرعية لتنحصر فى استقطاب حاد بين ما هو إسلامى وما دونه، وبين مَن هو مع الشريعة ومَن ليس معها، وتحوّل الصراع السياسى المتوقع إلى صدام، وتحوّل الحراك السياسى المأمول إلى تحريك، وتحوّل الاختلاف الطبيعى على بناء الدولة إلى خلاف!
منذ تنحى المخلوع مبارك فى فبراير 2011 بدأ الحديث عن النموذج السياسى المصرى المأمول، أىّ الشكل الأمثل للنظام السياسى المصرى الجديد عقب إزاحة النظام البائد وبعض شخوصه وبعض أركانه ومقوماته، وكثر الحديث عن أن مصر فى طريقها إلى النموذج التركى وهذا فى الشكل الأكثر تفائلاً، والبعض الآخر تحدث عن أن مصر فى طريقها إلى النموذج الباكستانى، ومع الصعود الإسلامى الكبير تحدّث البعض عن أن مصر فى طريقها إلى النموذج الإيرانى خاصة وأن مصر بها مرشد ورئيس، وكان السيناريو الأكثر قتامة هو أن مصر فى طريقها إلى النموذج الأفغانى أو الصومالى حيث الدولة الفاشلة المُغيبة.
•••
كان الطريق بعد ثورة أبهرت العالم أن تصل مصر إلى نموذج يحتذى به الجميع، فوصلت مصر بالطريقة، بعد أن ضلّت الطريق، إلى نموذج مُقلق غير مستصاغ، حتى أن الرئيس الباكستانى آصف على زردارى يطمئن شعبه بأن الحزب «لن يسمح بتطبيق النموذج المصرى فى باكستان»، ويقصد هنا برفض حالة التمصير المتفردة والمنفردة فى عدم استشارة السلطة لقوى المعارضة، فأصبحت مصر التى كانت ترفض حالة «البكستنة» نموذج ترفض به باكستان حالة «التمصير».
وبدت ثورة مصر التى كانت ترفض وتشجب مجرد التوقعات بأن مصر فى طريقها إلى النموذج الإيرانى، إلى حالة شبيهة أقل حدة من النموذج الإيرانى، خاصة فى ظل علاقة غير واضحة المعالم بين رئيس يحكم شعب وفى نفس الوقت ولائه ــ بحكم الانتماء السياسى والسمع والطاعة ــ إلى المرشد، رئيس لم ينجح حتى هذه اللحظة أن يثبت أنه رئيس للجموع وليس للجماعة.
•••
بدت مصر أقرب للنموذج الإيرانى رغم أن النماذج السياسية لا يمكن استيرادها أو حتى تصديرها أو محاكاتها، لأن النماذج تنشأ بالأساس فى ظل بيئة وخصوصية كل مجتمع وهى معطيات بالتالى تختلف من مجتمع لآخر، بالإضافة إلى أن طبيعة الشعوب هى الأخرى تحدِّد مدى تقبُّل أيّ نموذج سياسى أو حتى شكل هذا النموذج السياسى، إلا أن ثمة تقارب ملحوظ لايمكن إنكاره، خاصة فى ظل ما نشرته التايمز مؤخراً و مصادر مختلفة عن تعاون أمنى سرى بين البلدين لتعزيز جماعة الإخوان من سيطرتها على الحكم فى مصر.
كذلك كان تصوُّر النموذج المصرى المأمول قائم على أمرين هامين لا يستقيم أى نموذج ناجح بدونها، وهما القانون والإعلام، حيث لا يمكن تصور دولة بها نموذج ناجح لا تحترم القانون وتقيّد الإعلام، وبدا واضحاً أن ثمة تغييبا للدولة فى القيام بأدوارها فى ظل حالتين واضحتين، الأولى بمحاصرة البعض للمحكمة الدستورية العليا والثانية بمحاصرة البعض الآخر لمدينة الإنتاج الإعلامى، وما فى ذلك من رسائل ضمنية من محاصرة القانون وترهيب الإعلام دون تدخُّل واضح من الدولة.
•••
وعندما لا تقوم الدولة بأدوارها، نتيجة الغياب أو التغييب، تقترب من حالة الصوملة أو الأفغنة، رغم أن الثورة المصرية بآمانيها وطموحاتها كانت لاتدل أبداً بأن مصر قد تقترب يوماً من نموذج الصومال أو أفغانستان ، ولذلك للأسف تحولت مصر إلى نموذج غير واضح المعالم مرفوض ومنبوذ من النماذج السياسية حتى السيئة منها، وبدت مصر بعيدة عن النموذج التركى بمعارضة هشة واقتصاد متخبط.
بعد عامين على الثورة المصرية، أجد لزاماً على جماعة الإخوان أن تنتقل فكرياً من طور المعارضة التى كانوا فيها لسنين منذ ظهورهم فى مارس 1928 إلى طور السُلطة التى أصبحوا فيها بفضل الثورة المصرية التى انضموا إليها متأخرين قليلاً، وعلى المعارضة أن تنتقل من التنظير إلى التطبيق، ومن الأفكار إلى الشارع، حتى لا تظل هشة، لأن المعارضة القوية هى الضمانة الحقيقية لنموذج سياسى قوى.
•••
مصر قادرة على خلق نموذجها السياسى عن طريق إيجاد دولة القانون والمواطنة، والحرية المسئولة، وبناء مؤسسات قوية، عمادها القضاء المستقل والإعلام الهادف، وأن يكون بناء الإنسان المصرى جنباً إلى جنب مع بناء دولة المؤسسات، لأنه لا قيمة لدولة مؤسساتها قوية وإنسانها ضعيف، وبالتالى نحن نريد أنسنة النموذج السياسى المصرى المأمول، ونريد تمصيره بأن يكون مصرياً خالصاً يستورد من النماذج الأخرى ما يتفق مع خصوصية الحالة المصرية ويستبعد ما يتناقض ويختلف ولا يستوعبه المجتمع، ومجتمع يستوعب الجميع مهما تكن توجهاتهم، مجتمع يحترم الآخر مهما زاد حد الاختلاف، اختلاف دون خلاف، وصراع دون صدام، وحراك دون تحريك.
ولن نستطيع خلق نموذج سياسى ناجح بدون سياسة خارجية قوية تستطيع أن تعود بمصر المكان والمكانة والإمكانية، لأن الداخل يصنع الخارج، والخارج يؤثر على الداخل، ومصر عليها الآن، والآن تعنى الآن، أن تعود إلى محيطها العربى بسياسة متوازنة تعالج التخوفات من خلال نظر لافوقية متعجرفة، وتعود مصر إلى محيطها الأفريقى بعد تهميش عقود مبارك، لأن أفريقيا هى قلب مصر النابض ووجهتها الاقتصادية وعماد أمن مصر القومى، وتعود مصر إلى محيطها الإسلامى بوسطيتها ونموذجها السمح، وتعود مصر إلى العالم عن طريق سياسة خارجية تجعل مصلحة الوطن فوق مصلحة الآخرين.
•••
مصر بثورتها الرائعة، ومخزونها الحضارى الضخم، ومواردها البشرية والاقتصادية الكبيرة تستطيع خلق نموذجها السياسى المأمول، ولكن نريد إرادة قوية وإدارة ناجحة، نريد أن تصبح الطريقة بعظمة الطريق الذى بشرت به الثورة المصرية منذ عامين، وأن يعى الجميع أن مصر للمجموع وليست للجماعة.
كاتب وباحث سياسى