«الكهف» سورة شهيرة من سور القرآن الكريم، تتألف من 110 آيات، وهى واحدة من أشهر السور التى يحرص المسلمون على قراءتها يوم الجمعة وعلى تعليمها لأبنائهم بعد أن ترسخ لديهم يقين بأثرها البالغ فى النفس كمصدر للتربية والتنشئة على الأخلاق الحميدة.
من بين 110 آيات لا تزيد قصة أهل الكهف على 17 آية فقط، وهو ما يعنى أنها لا تصل حتى إلى 20% من إجمالى آيات السورة.
ومع ذلك، يرى كثير من المفسرين أن السورة كيان كلى متناغم، تعد فيه قصة أهل الكهف هى «التيمة» الرئيسة التى تدور حولها بقية القصص الملتحقة بها.
تؤكد السورة -من بدايتها إلى نهايتها- مفاهيم عبادة الله وحده دون شريك، والصبر على الابتلاء، وأن الأعمال يجب أن تقرن بالنوايا الطيبة، وأن أمر الدنيا كله عرض عابر أقرب إلى نزول ماء من السماء لتحيا به الأرض فترة من الزمن قبل دورة موتها، وأن كل متاع الدنيا من مال وبنين ليس إلا زينة عابرة، وأن أصحاب المكاشفات القلبية والعلم الراسخ لا يفسرون الأمور بالظاهر المتناقض بل بالباطن المؤجل المدهش، وأن الكل مجموع إلى يوم الحساب أمام الحاكم العدل الذى ضرب لنا فى كتبه المقدسة بعض أمثال للاعتبار والتذكرة، وهذه الأمثلة إشارات لمن يلتقط الإرسال ويؤمن بالرمز، ذلك لأن الله لو حدثنا عن كل شيء ما كانت مياه البحر تكفى مدادًا لقلمه.
فى عام 1933 نشر توفيق الحكيم مسرحية «أهل الكهف» معتمدًا على أربعة مصادر:
القرآن الكريم
التراث المسيحى المسجل فى كتب التراث أو الموروث الشعبى
المصادر الآسيوية التى تورد قصة أهل الكهف فى غير الديانتين المسيحية والإسلام
خيال الأديب المحلق فى السحاب لا سيما فى حوارات الأبطال التى تضع فلسفة تفسيرية بليغة المعنى والمغزى

قصة أهل الكهف ليست مسجلة فى العهد القديم ولم ترد فى أى من أناجيل العهد الجديد وهو ما لم يوفر للحكيم مصدرًا دينيًا أدبيًا كالذى سيلجأ إليه فى مسرحيته الثانية «نشيد الإنشاد» التى نشرها بعد هذه المسرحية بنحو 7 سنوات.
فى سورة الكهف فى القرآن الكريم نحن لا نعرف أى زمن وقعت فيه القصة، هنا لدينا المذهب الذى أشرت إليه فى مقالاتى السابقة عن «تحييد الزمان والمكان والشخوص»، لتصبح القصص القرآنية صالحة لكل الأزمان وكل الأماكن.
فى سورة الكهف فى القرآن الكريم لا نعرف أية ديانة أو أية عقيدة لأهل الكهف سوى أنهم يعبدون الله ولا يشركون به أحدًا. هذا يعنى أن القصة متسعة بحكم الوعى الإنسانى منذ لحظة الخليقة الأولى.
النسخة التى اعتمد عليها الحكيم هى الصياغة المسيحية التى تشير إلى وقوع هذه الأحداث فى عهد أحد الأباطرة الرومان وقت اضطهاد المسيحيين فى القرون الأولى لتلك الديانة الوليدة.
يصرح الحكيم بشكل قاطع بأن الأحداث وقعت فى عهد «دقيانوس»، وبالتالى هو يجمد الزمان عند عصر ذلك الإمبراطور فى منتصف القرن الثالث الميلادى أو فى حدود عام 250 بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام.
وبينما القصة التى وردت فى سورة الكهف تستخدم كلمة «المدينة» دون تحديد أى مدينة فى العالم يضع الحكيم أحداث القصة قرب مدينة فى بيزنطة معقل المسيحية الشرقية، وهو فى هذا يتبنى المصادر المسيحية الأوروبية التى كانت ترجح موقع الأحداث بين مدينة «أفسوس» (فى غرب تركيا حاليا) ومدينة «طرسوس» (فى جنوب غرب تركيا حاليا).
خلال زيارتى للهند فى عام 2005 كانت هناك رحلة سياحية غالية الثمن لم أستطع القيام بها تأخذ السياح الأثرياء إلى موقع «أهل الكهف» فى وسط الهند. وتشير المصادر الهندية إلى رواية شهيرة تشبه قصتنا الحالية.
فى مسرحيته، لم يغفل الحكيم الإشارة على لسان الأبطال أن القصة معروفة منذ أزمان بعيدة سابقة على القرن الثالث الميلادى، وأعطى نموذجًا من معرفة أهل اليابان بها قبل العصر المسيحى بقرون طويلة.
ويمكن القول إن فكرة هروب بعض المؤمنين بدينهم من بطش الحاكم الظالم إلى كهوف بعيدة هى تيمة إنسانية عرفتها كل الأزمنة وكل الأمكنة.
ورغم أن قصة أهل الكهف جاءت فى القرآن الكريم فى 17 آية فى نحو ثلاث صفحات فقط فإن الحكيم أفرد لها 210 صفحات.
السبب الرئيس فى هذا العدد الكبير من الصفحات هو خيال الحكيم الخصب الذى سمح له بأن يجرى حوارات فلسفية بين الأبطال مع الالتزام (تقريبًا) بالنص المشهور.
ولعل أفضل حوار تمكن منه الحكيم هو بين اثنين من العاشقين قطع بينهما الزمن (الرجل الذى فر إلى الكهف والأميرة المسيحية التى أخفت عن أبيها الإمبراطور الوثنى إيمانها)، وشغل هذا الحوار مساحة كبيرة من المسرحية، وكان مشهدها الختامى.
ولعل قراءة هذه الحوارات فى عام 1933 كان شيقًا تمامًا، لكن ربما شعر معها قارئ عام 2025 ببعض الملل والإطناب والتكرار.
الجرأة الكبرى فى حوارات الحكيم تكمن فى الحبكة الفنية للمشهد الأكثر شهرة فى معضلة أهل الكهف.
فبعد أن أدرك العاكفون فى الكهف أنهم غابوا عن الزمن 309 سنوات حاولوا الاندماج فى الحياة الجديدة التى استقبلتهم بترحاب بعد زوال الملك الظالم. حاول كل منهم أن يعود إلى حياته السابقة: الابن أو الحبيبة أو البيت، لكنهم وجدوا كل ذلك قد تبدد واختفى وشعروا بأنهم غرباء عن العالم الذى تركوه.
شكلت الغربة حالة من الجنون. كان المشهد، بخيال الحكيم، حالة من المقارنة بين استقبال العائدين من الكهف باعتبارهم قديسين عادوا للحياة بعد طول انتظار وبين شعورهم هم أنفسهم بالغربة والفقد والتعاسة والصدمة، إذ تغير كل شىء حولهم. ومن ثم عاد القديسون إلى كهفهم، لأنهم وجدوا أنفسهم غرباء لا يمكنهم الاتساق مع الزمن الجديد، وفى كهفهم ماتوا!
الرسالة الخفية بين سطور الحكيم وخياله الخصب أن عظمة ما قدمه الفارون بدينهم من الاضطهاد كانت فى هروبهم واحتفاظهم بعقيدتهم ضد الفساد، وهنا تنتهى الأهمية ولا فضيلة فى رجوعهم بعد انتصار الدين.
عودة الهاربين بعد انتصار الدين وبعد انقشاع الظلم جعلتهم بلا ضرورة، غرباء عن عالمهم وقد تجاوزهم الزمن.
وكأن الحكيم يريد أن يقول إن مغامرة التضحية بالنفس من أجل المبدأ هى أعظم نتيجة وأن العودة فى زمن آخر بعد انتصار المبدأ وزوال الخطر لن تثمر لصاحبها أى انتصار للنفس بل ستؤلمها الغربة ويحاصرها التيه.
ورغم أن الأحداث لا مكان لها ولا زمان، فإن الحكيم فى عام 1933 لم يفته أن يستحضر مصر الوطن الذى يبحث لنفسه عن قدم فى المستقبل وقد أحاط به الماضى من كل حدب وصوب.
يقول الحكيم على لسان أحد أصحاب الكهف الذى أفزعه إن الزمن فاته وإنه لا مكان له فى الحياة الجديدة: «لا فائدة من نزال الزمن، لقد أرادت مصر من قبل محاربة الزمن بالشباب، فلم يكن فى مصر تمثال واحد يمثل الهرم والشيخوخة، كل صورة فى مصر هى للشباب من آلهة ورجال وحيوان، ومع ذلك كل شىء شاب، الزمن قتل مصر لكنها ما تزال شابة ولن تزال، ولن يزال الزمن ينزل بها الموت كلما شاء وكلما كتب عليها أن تموت».
مسرحية «أهل الكهف» قطعة أدبية يختلف القراء حولها: أغلبية تراها عملًا إبداعيًا نادرًا وأقلية تراها استلهامًا ساذجًا من التراث الدينى.
«أهل الكهف» عمل لن يقرأ فقط فى عام 2025 بل سيظل مهمًا وحاضرًا لعقود مقبلة.