أصبح المتحف المصرى الكبير ــ بلا منازع ــ أكبر متحف فى العالم مخصص لحضارة واحدة، هى الحضارة المصرية القديمة، يقع المتحف على هضبة الجيزة خلف الأهرامات الثلاثة، إحدى عجائب الدنيا السبع، ويضم قطعًا أثرية من مختلف العصور المصرية القديمة: من عصور ما قبل الأسرات إلى العصرين اليونانى والرومانى، وأبرزها مجموعة الملك توت عنخ آمون التى تُعرض كاملة لأول مرة، ويضم مساحات للعرض الدائم والمؤقت، وقاعة خاصة للأطفال، ومركزًا للترميم، ومكتبات، وفصولًا للحرَف والفنون، وقد تم ربط المتحف بالأهرامات بممشى سياحى يتيح للزوار الجمع بين زيارة المتحف وموقع الأهرامات فى يوم واحد بفضل قرب المسافة.
من أهم مميزات المتحف أنه الوحيد الذى يعرض حضارة متكاملة هى الحضارة الفرعونية المصرية القديمة، كما أنه المتحف الوحيد فى العالم الذى ليس فيه قطعة واحدة غير معروفة المصدر أو مسروقة، فضلًا عن أنه يحتوى على أكبر عدد من المعروضات تصل لأكثر من مائة ألف قطعة من حضارة واحدة!
• • •
فى المقابل، فإن الانفراد الذى كان يحظى به متحف اللوفر Musée du Louvre فى فرنسا باعتباره أشهر وأكبر وأهم متاحف العالم، كما أنه أهم المقاصد السياحية والثقافية فى العالم، أصبح ذلك من حسابات الماضى، ففى يوم السبت الموافق الأول من شهر نوفمبر 2025، حيث تم افتتاح المتحف المصرى الكبير، تغيرت أولويات السياحة العالمية، وتغير كذلك ترتيب أكبر وأهم المتاحف العالمية، وتغيرت أيضًا قبلة السائحين من اللوفر فى باريس عاصمة فرنسا إلى الجيزة إحدى ضواحى عاصمة جمهورية مصر العربية، وبذلك استُبدِل المتحف المصرى الكبير بمتحف اللوفر!
يُعد اللوفر متحفًا فنيًا ووطنيًا، به أكبر صالة عرض للفن عالميًا، وذلك قبل افتتاح المتحف المصرى الكبير، يتضمن اللوفر العديد من مختلف الحضارات الإنسانية، وبالمتحف توجد اللوحة الشهيرة الموناليزا للرسام ليوناردو دا فينشى، وكان المتحف فى الأصل قلعة بناها فيليب أوجوست عام 1190، ثم تحولت لاحقًا إلى قصر ملكى عُرف باسم قصر اللوفر، سكنه ملوك فرنسا، وكان لويس الرابع عشر آخر من اتخذه مقرًا رسميًا، ثم غادره إلى قصر فرساى عام 1672 ليكون مقر الحكم الجديد، ومنذ ذلك التاريخ أصبح اللوفر مقرًا يحوى مجموعة من التحف الملكية والمنحوتات على وجه الخصوص.
وفى عام 1692، شغل المبنى أكاديميتان للتمثيل والنحت والرسم، وبعد الثورة الفرنسية عام 1789، أعلنت الجمعية الوطنية ــ فى 10 أغسطس 1793 ــ أن اللوفر أصبح متحفًا قوميًا تُعرض فيه روائع الأمة الفرنسية، وكذلك روائع الأمم الأخرى، فأصبحت فيه أقسام فنية متنوعة الحضارات: الشرقية ومصر القديمة واليونانية والرومانية، ومؤخرًا الحضارة الإسلامية، بالإضافة إلى مدارس فنية مختلفة: الفرنسية والإيطالية والهولندية والفنلندية والإنجليزية.
ويضم قسم الآثار المصرية القديمة فى المتحف أكثر من خمسين ألف قطعة، فضلًا عن قطع أثريّة من حضارات النيل التى يعود تاريخها إلى 4 آلاف قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادى، وتُعتبر هذه المجموعات من بين أكبر المجموعات فى العالم تُعطى لمحة عامة عن الحياة المصرية فى مصر القديمة، والمملكة المصرية الوسطى، والمملكة المصرية الحديثة، والفن القبطى، ومصر الرومانيَّة، والمملكة البطلميَّة، والإمبراطورية البيزنطيَّة.
وفى عهد الرئيس الفرنسى الراحل فرنسوا ميتران (1981 ــ 1995)، خضع المتحف لعمليات إصلاح وتوسعة كبيرة، وبتكليف مباشر من الرئيس، أمر بتشييد مدخل حديث لمتحف اللوفر فى عام 1989، بعدما ضاق مدخله القديم بالزوار، وقد جاء شكله النهائى على هيئة «هرم» زجاجى بهيكل معدنى رباعى الجهات، وُضع فى قلب الساحة الرئيسية للمتحف ليقود الزوار إلى قاعة الاستقبال الرئيسية.
كان البناء الجديد مفارقة عمرانية واضحة، أصابت الكثيرين بكثير من التعجب والاستغراب، ذلك أنهم رأوا تناقضًا بين الطراز الكلاسيكى للقصر وبين حداثة التصميم الهرمى الزجاجى، وعليه ثارت عواصف من الاستهجان والرفض والاعتراض على البناء الجديد، وصولا إلى السخرية من الرئيس ميتران بأنه مصاب «بمتلازمة الحضارة الفرعونية»، ورغبته فى تخليد اسمه عبر تشييد هذا الهرم الغريب المضحك الشكل على حد تعبير المعارضين، وبطبيعة الحال، كان للهرم مؤيدوه ومحبوه ممن قالوا إنه يمثل نقطة التقاء فنية ما بين الكلاسيكية والحداثة، وما بين القديم والجديد!
• • •
دارت حول هرم اللوفر حكاية شيقة، كانت الحكاية الأكثر تشويقا التى تم تداولها أثناء تشييد المدخل فى الصحافة والأوساط الثقافية الفرنسية، وأعاد إحياءها الروائى الأمريكى دان براون فى روايته الأشهر «شفرة دافينشى»، فى عام 2003، وهى أن الهرم الذى بُنى قصدًا بطلب مباشر من الرئيس ميتران، يتكون من قطع زجاجية مجموعها 666 قطعة، وهذا الرقم هو الجزء الأكثر إثارة فى المسألة فهو يُسمى فى علم تاريخ الأديان «رقم الوحش»، والمراد به وحش جاء ذكره فى «العهد الجديد» بأنه يخرج فى آخر الزمان طالبا من البشرية طاعته وعبادته فيتصدى له المسيح، ويقتله غرقًا فى بحيرة النار، وكذلك يرتبط هذا الرقم بالمسيح الدجال الذى يصارعه المسيح أيضا، وفى النهاية ينتصر الأخير عليه، ولذلك يُعرف فى كثير من الأدبيات بأنه رقم شيطانى أو «رقم الشيطان» نفسه، وأن استخدامه يستدعى الشيطان أو يستظل به، وأن للأمر ارتباطا بديانة خفية كان يدين بها الرئيس ميتران!.
فمن المعروف عن الرئيس ميتران أنه كان مولعًا بالميثولوجيا mythology أى علم الحكايات الخرافية عن الآلهة وعن الأبطال الأسطوريين، كما أنه كان عاشقًا للحضارة الفرعونية لدرجة أن الفرنسيين أطلقوا عليه كِنيَة السفينكس Le Sphinx أى أبو الهول، ومن الغريب أنه احتفل بآخر كريسماس له فى حياته فى ديسمبر 1995 فى أسوان، وتحديدًا فى فندق «أولد كتراكت» الأسطورى الذى يطل على النيل مباشرة، وكان اختيار ميتران لهذا الفندق ــ كما يقول مؤرخون فرنسيون ــ لأن شُرفة جناحه كانت تطل على جزيرة «فيله» Île Éléphantine حيث يوجد معبد فيله الذى خُصص لعبادة الإلهة «إيزيس» معشوقة الإله «أوزوريس»، بالإضافة إلى عدد آخر من المعابد ومنها معبدا حتحور وحورس، ويرجع اسم فيله أو Philæ إلى اللغة الإغريقية الذى يعنى «الحبيبة»، أما الاسم العربى لها فهو «أنس الوجود»، نسبة للأسطورة الموجودة فى قصص «ألف ليلة وليلة»، والاسم المصرى القديم هو «بيلاك»، ويعنى الحد أو النهاية لأنها كانت «آخر» حدود مصر فى الجنوب!.
وقد اختار الرئيس ميتران هذا الموقع عن قصد لأن فيه مدافن لملوك فرعونية، وديرًا مسيحيًا، وحجرة إرضاع «إيزيس» لطفلها المعبود «حورس» الذى أنجبته من عشيقها «أوزوريس» بعد وفاته بسنين عديدة (أسطورة)، مكان تجمعت فيه روحانيات كثيرة، فأثار هذا المشهد مُخيلة الرئيس، وبعد عودته لفرنسا فى 29/12/1995 بأيام قليلة، تناول العشاء الأخير مع عائلته فى 8 يناير 1996، ثم أمر طبيبه الخاص بإعطائه حقنة فى الوريد للحصول على «الموت الرحيم»، فقد كان مريضًا بسرطان البروستاتا، هكذا رسم الرئيس ميتران نهايته مرتبطة بالحضارة الفرعونية، وخاصة بقصة «إيزيس» ليقول إنها «العشق الأخير» له، ولتصبح وفاته قصة من أساطير الأبطال، ربما تُفسر ديانته الخفيَّة التى تساءَل عنها الكثيرون!
فهل كان إصرار ميتران على بناء الهرم فى ساحة اللوفر رغبة منه لربط اسمه بالحضارة الفرعونية، باعتباره ملقبًا بالسفينكس؟ أم تنبؤا منه بما سيحدث مستقبلًا، وأن حضارة الأهرامات هى التى ستتصدر الواجهة العالمية؟ وهل تنبأ بأن أهمية اللوفر ستتراجع لصالح المتحف المصرى الكبير، وأن قبلة السائحين والمثقفين فى العالم كله ستتوجه نحو مصر بدلًا من فرنسا، وأن لوحة الموناليزا سوف تسلم الراية للملك توت عنخ آمون مستقبلًا؟ كلها تساؤلات مشروعة وتنسجم مع الميثولوجيا التى كان مولعًا بها الرئيس فرنسوا ميتران!.
• • •
من المؤكد أن متحف اللوفر لم يعد المتحف الأعظم عالميا من حيث الأهمية، ولا من حيث عدد زواره، فطاقته الاستيعابية 25 ألف زائر فقط يوميا، بينما المتحف المصرى الكبير تخطى عدد زواره فى الأيام الأولى بعد افتتاحه 30 ألف زائر يوميًا، كما أن اللوفر مبنى على مساحة تبلغ نحو 73 ألف متر مربع، بينما المتحف المصرى مبنى على مساحة تبلغ حوالى 490 ألف متر مربع!
ومن ناحية أخرى، إذا كان اللوفر بهرمه الزجاجى الحديث أحد أشهر معالم باريس وأهمها، وأنه يستقبل الزائرين فى مدخله بحكايته «الشيطانية» التى لا تزال وستظل مصدرًا لخيالات عشاق نظريات الغيبيات والأساطير، فإن المتحف المصرى الكبير أصبح أهم وأشهر معالم العالم أجمع، فتمثال الملك رمسيس الثانى الذى يبلغ ارتفاعه حوالى 11٫36 متر، ويزن 83 طنًا، وصاحب القامة الأضخم والأطول من بين التماثيل الفرعونية، سيكون فى استقبال زوار المتحف المصرى الكبير، كما أن ألغاز الحضارة الفرعونية، وما تحتويه من أسرار التحنيط، وأسرار بناء الأهرامات الذى يعتقد البعض أنهم نزلوا من السماء، ورموز شكل أبو الهول برأس الإنسان وجسد الأسد، ستظل الأكثر تشوقًا وإثارة لكل زائر، ولكل دارس فى تاريخ البشرية!
ختامًا، ذلك ما يمكن أن يُقال عما بين المتحف المصرى الكبير ومتحف اللوفر!