فى تاريخ الإسلام السياسى محن كثيرة، لكن هناك محنتين مؤثرتين بدرجة كبيرة، وفارقتين فى مسيرة الأمتين العربية والإسلامية، وقعت أول محنة بعد مقتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، وقد عُرفت بـ«الفتنة الكبرى»، ودارت حول: لمن تكون أحقية الخلافة: لعلى بن أبى طالب أم لمعاوية بن أبى سفيان؟ كانت معركة «صفين» -بين الطرفين- سياسية وليست دينية، نجح فيها معاوية بن أبى سفيان بإدخال الدين فى السياسة، فعندما لاحت الهزيمة لمعاوية طالب برفع المصاحف ليحتكم إليها فى شأن سياسى لا علاقة له بكتاب الله؛ ومن بعد نجح أيضًا بهدم مبدأ الشورى المُتبع فى اختيار الخليفة بعد النبى ﷺ، وجعل الحكم ملكيًا، أى يورث لأبنائه، كانت هذه المحنة الأولى التى أدت إلى إفساد نظام الحكم فى تاريخ الأمة الإسلامية حتى اليوم وإلى ما بعد اليوم!
أما المحنة الثانية، فهى تخص قضية عقائدية ظاهريًا، لكنها سياسية جوهريًا، وذلك عندما ظهرت قضية «خلق القرآن» التى حدثت فى عهد الخليفتين المأمون (198-218هـ) والمعتصم (218-227هـ)، كانت صراعًا سياسيًا فى المقام الأول فرضته السلطة العباسية لتأكيد سيطرتها الفكرية، حيث ناصروا قول المعتزلة «خلق القرآن»، هكذا استغلت السلطة السياسية هذا الخلاف العقائدى لفرض رأيها، وسحق المخالفين بقيادة الإمام أحمد بن حنبل الذى رفض القول بخلق القرآن، والذى كان رمزًا للمقاومة السنية ضد السلطة.
فى هذا يرى المفكر محمد عابد الجابرى فى كتابه «الفكر العربى فى مواجهة السلطة» أن الخليفتين: المأمون والمعتصم وظَّفا القول بـ«خلق القرآن» توظيفًا سياسيًا، ومن بعدهما الواثق بالله (227-232هـ) الذى أشرف على مناظرة بين الشيخ أبوعبدالرحمن الأذرمى وابن أبى داود قضت على فتنة خلق القرآن فى العصر العباسى، حيث أفحم الأذرمى خصمه بحجته، ما دفع الخليفة الواثق إلى التراجع عن تأييد القول بخلق القرآن، ولم يُمسك بعدها أحد على هذا الاعتقاد.
تعنى فكرة «خلق القرآن» أن هذا الكتاب له بداية، واحتج المعتزلة بقوله تعالى: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ» (المائدة: 48)، كما أن قضية «النسخ» تدعم هذا الرأى، ومن هذا المنطق يرى المعتزلة أن القرآن له بداية ونهاية، وهذا يتعارض كلية مع صفات الله التى ليست لها بداية ولا نهاية، فهذا القول مردود عليه، فالحقيقة أن القرآن ذُكرت فيه أحداث وأفعال لها بداية ونهاية، إلا أن هناك فارقًا بين «الفعل» و«القول»، فالفعل «حادث» مرتبط بالزمن أى له بداية ونهاية، أما «القول» أى كلام الله فهو «قديم» لعلمه بكل شىء قبل وبعد حدوثه، ويؤكد علماء النحو فى اللغة العربية من المستشرقين خاصة هذ الرأى، ويثبتون بنظريتهم الدليل القاطع بأن كلام الله كله «قديم»، ونذكر على سبيل المثال قصص الأنبياء فى القرآن، مرتبطة بأوقات محددة، وبشخصيات بعينها، عاشت وماتت، ولكن سردها بقول الله سبحانه جعلها قديمة، وهذا جعل أحداثها حِكمًا تتعلم منها البشرية كلها إلى الأبد!
• • •
«محنة خلق القرآن» من أشهر القضايا فى تاريخ الإسلام الفكرى والسياسى، ونحن هنا نعرضها من زاوية محددة تخدم تحليلنا لقضيتنا اللغوية، فليس هدفنا دراسة المحنة بل نتحدث عنها كمدخل لموضوعنا.
فى نهاية شهر يوليو الماضى ترأَّست لجنة لمناقشة رسالة ماجستير بكلية الآداب فى جامعة الفيوم، وعنوانها «إشكالية ترجمة أزمنة الأفعال إلى اللغة الفرنسية فى سورتى الأنبياء وطه» (باللغة الفرنسية) للطالبة آمال سعد الدين، وبإشراف أستاذَى اللغويات الدكتورة نيفين ثروت (جامعة الإسكندرية) والدكتور محمد سعد (جامعة الفيوم) وعضوية الأستاذة الدكتورة أميرة جمعة (جامعة الأزهر)، وقد تضمنت الرسالة فصلًا عن «عناصر الفئات الفعلية المحددة: الزمن والمؤشر أو ظاهر التعبير (Aspect) والصيغة (Mode)».
فمن المعلوم أن الزمن فى اللغة العربية لا يعطى اعتبارًا للصيَغ (الخبرى والتمنى أو الاحتمالى والشرطى)، ولا لتقسيمات الأزمنة التى تَنقسم فقط إلى «تام» الذى يعبِّر عن الماضى، و«غير تام» ويعبر عن الحاضر والمستقبل، بينما فى اللغات اللاتينية -مثل الفرنسية- التعبير عن الصيغ -السابق ذكرها- مُحدد تمامًا، فيوجد لصيغتى التمنى والشرطى أربعة أزمنة (الماضى والماضى التام والماضى المطلق والحاضر)، وأما عن الصيغة الخبرية فالأزمنة فيه متعددة، فالمضارع يُمكن التعبير عنه بالمضارع présent والمضارع المستمر présent progressif، والماضى له ست فئات: الماضى غير المحدد passé indéfini) composé) والماضى البسيط (المحدد) passé défini) simple)، والماضى التام passé antérieur، والماضى الناقص imparfait، والماضى القريب passé récent، والماضى المطلق plus-que-parfait، وعن المستقبل فيعبر عنه بالمستقبل البسيط futur simple، والمستقبل التام futur antérieur، والمستقبل القريب.
هذه التقسيمات الزمنية الدقيقة والمحددة فى اللغات اللاتينية تخلق إشكاليات كبيرة عند ترجمة نصوص من العربية إلى إحدى لغاتها، خاصة إذا كانت نصوصًا دينية مثل القرآن الكريم، فمن الواضح أن تقسيمات الأزمنة المتنوعة فى اللغة الفرنسية لا يمكن مقابلتها بزمنين فقط (التام وغير التام)، والعكس صحيح، فطبيعة اللغات السامية ومنها العربية تختلف اختلافًا بيِّنًا عن طبيعة اللغات الأوروهندية وخاصة اللاتينية، وهذا ما توصل إليه المستشرقون وعلى رأسهم بلاشيرR. Blachère وفليشH. Fleish وكوهينD. Cohen عندما اعتبروا العربية لغة "ظواهر" أو "مؤشرات" بامتياز (Aspectuel)، وهذا مصطلح ابتكره اللغويون المعاصرون الغربيون، ولهذا لا نرى أى إشارة لهذا المفهوم لدى مؤسس النحو العربى سيبويه فى مؤلفه الموسوم "الكتاب" الذى وصف فيه بكل دقة اللغة العربية، فعلى الرغم من أنه المرجع الأول والأهم فى نحو اللغة العربية فإنه لم يأت بأى إشارة لمفهوم "الظواهر" أو "المؤشرات" الذى يُغنى عن نقص الأزمنة فى اللغة العربية!
يرى اللغويان ديكرو S. Ducrot وتودوروف T. Todorove فى «قاموسهما الموسوعى عن علوم اللغة» (1972) أن «ظاهرة المؤشرات» (Aspect) صفة نحوية تحل محل الأزمنة، فهى تعطى مؤشرًا على اللحظة التى حدث فيها الفعل، وليس اللحظة التى تم التعبير عن حدث الفعل أى لحظة «القول»، فهذا هو الفارق بين «الفعل» و«القول»، ومن هنا نستنتج أن «القول» فى لغة القرآن يُمثل نموذجًا يمكن تكراره وتعميمه على أحداث ومواقف أخرى على مر العصور، ودون إعطاء اعتبار للوقت أو الزمن الذى حدث فيه الفعل، كأن نقول «الله خَلق السماوات والأرض»، فـ«خَلَقَ» لا تعبر عن فعل فى الماضى، ولكن تُعبر عن حقيقة مطلقة، وعن قدرة إلهية لا يحُدها الزمن، فهو إذن «قديم»، أما إذا ارتبط «الفعل» بزمن معين فتصبح له بداية ونهاية، أى أنه ينتهى بنهاية الزمن المرتبط به، وبالتالى هو «حديث» أو «مخلوق».
• • •
ولمزيد من التوضيح، فإن «القول» دون ربطه بزمن محدد يُعتبر «مثلًا» عامًا للبشرية كلها باعتباره حقيقة مطلقة، ليست فيه خصوصية لأمة معينة أو لفئة محددة، وبلغة العصر يُسمى أمرًا «عالميًا» (Mondialisation)، أى أن هذا «القول» يصلح لكل زمان ومكان، وهذا بالضبط ما ينطبق على طبيعة القرآن الكريم، وأن «الأقوال» المذكورة فيه «قديمة» لا بداية ولا نهاية لها، وهذا ما لم يستطع إثباته اللغويون العرب بمن فيهم سيبويه، ولكن توصل إليه اللغويون الغربيون المعاصرون!
وعليه نستطيع الجزم بأن «المظهر» أو «المؤشر» (Aspect) فى اللغة العربية أهم من الصيغة التى يُعبر بها عن الفعل (الخبرية أو الشرطية أو التمنى)، وهى أيضًا أهم من تحديد الزمن سواء الماضى أو الحاضر أو المستقبل، فـ«المظهر» يُعبر عن «الاستمرارية» و«التكرار» و«تمام» وقوع الفعل أو الحدث - دون شك - ويؤكد المستشرقون أن «الزمن» أو «الوقت» لا قيمة لهما، سواء كان فى الماضى أو الحاضر، لكن «المظهر» يُعبر عن «الكامل وغير الكامل» وعن «الشامل وغير الشامل» وعن «التام وغير التام» وعن «العام والخاص» وعن «المستمر والمُتقطع»، فهو حالة شاملة وجامعة تتفق مع الذات الإلهية وقِدَم كتابه الكريم، وفضلًا عن ذلك فإن «المظهر» أو «المؤشر» - كما يؤكد المستشرقون - يعكس «الموضوعية» - صفة ثانية تليق بالذات الإلهية - على عكس «الزمن» الذى يعكس «الذاتية»، لأنه مُتغير مع تغَيُر الأزمان وهذه صفة إنسانية!
ونخلص مما سبق بأن «الزمن» فى النحو - بشكل عام - يُحدد وقت وقوع الفعل، ويُقسمه لماضٍ وحاضر ومستقبل، بينما «المظهر» يهتم بدلالة (semantic) الفعل والمقصود منه كمثل عام لا علاقة له بتغير الزمان، ومن هنا يتضح لنا الفارق الكبير بين النحويين العرب القدامى الذين يعتبرون اللغة العربية لغة «أزمنة»، مثل اللغات الأخرى، وبين اللغويين المستشرقين المعاصرين الذين يرون أن اللغة العربية تتميَّز عن اللغات الأخرى بأنها لغة «ظواهر»، وهذا يُعطيها قدرة أكبر على التعبير بها خصوصًا فى النصوص الدينية باعتبارها كلامًا صالحًا لكل زمان ومكان، كما وضح لنا فى القرآن الكريم، حيث اختفت التقسيمات والتفصيلات الزمنية المعروفة فى اللغات اللاتينية، وهكذا يكون «قول» القرآن «قديمًا»، لأنه عبَّر عما فيه من أفعال وأحداث وقعت فى الماضى بأنها «عالمية» و«أزلية» لا ترتبط لا بالزمان ولا بالمكان!
أخيرًا كانت هذه ملاحظاتى على مضمون الرسالة التى تضمنت موضوعًا شائكًا دون أن تعلم الطالبة، فوجب تسجيلها للخاصة والعامة، كما كشفت عن أن المستشرقين ليسوا دائمًا مغرضين!