عندما نتحدث عن وزيرنا المغربى الراحل د. محمد بن عيسى، لا تواجهنا صعوبة فى ذلك، لكن التحدى قد يطرح نفسه عندما نتطرق إلى أحد معالم شخصيته التى تريحنا لأننا عرفناه من خلالها. غير أن سيرة عزيزنا الراحل لا يمكن اختزالها فى الثقافة أو الدبلوماسية، وهو ما عُرف عنه نتيجة المسئوليات التى اضطلع بها على رأس وزارتى الثقافة والخارجية فى مغربنا الحبيب.
 
ولا غرابة فى أن شخصية الوزير محمد بن عيسى كانت قد عركتها تجربة سياسية فى بلاده، أولًا كنائب فى مجلس النواب المغربى ورئيس لبلدية أصيلة، بالإضافة إلى عمل دءوب ومضنٍ كوزير للثقافة والخارجية. إلا أن عطاءه المتنوع والغزير كان قد استند إلى تكوين تربوى متميز، قاده بعد موطنه المغرب إلى الشقيقة مصر، ثم إلى الولايات المتحدة فيما بعد. وما من شك فى أن مثل هذه المحطات كانت قد أثرت بتنوعها اللغوى والتربوى والأكاديمى فى شخصية وزيرنا الراحل، وأهلته للمساهمة بفعالية فى جميع المجالات التى انخرط فيها.
• • •
أود هنا أن أتوقف عند بداية عمل الوزير محمد بن عيسى، والتى قلما يتم التطرق إليها، وهى عمله فى مجال الاتصال والإعلام؛ فقد عمل كمذيع فى إذاعة «إفريقيا المغرب» بطنجة قبل إنهاء دراسته الثانوية، كما عمل فى هذا المجال مع بعثة بلاده فى نيويورك، ثم مع الأمم المتحدة كمسئول إعلامى فى اللجنة الاقتصادية لغرب إفريقيا فى أديس أبابا، ثم كمستشار إقليمى لمنظمة الأغذية والزراعة الدولية فى غانا، قبل أن يتقلد عدة مناصب فى مقر المنظمة الدولية فى روما كمدير للإعلام، ويصبح فيما بعد الأمين العام المساعد للمؤتمر الدولى لهذه المنظمة.
فما من شك أن الانخراط فى الاتصال وعالم الصحافة يفتح آفاقًا كبيرة. ومن ناحيةٍ أخرى، يمنح العمل الدولى فرصة كبيرة للتعرف عن قرب على أمور عالمنا المعاصر والإشكاليات التى تطرحها. ومن ثم، عُرف عن وزيرنا الراحل عطاءٌ وإبداع كصحفى فى بلاده، حيث ترأس إدارة الجريدتين الناطقتين باسم حزب التجمع الوطنى للأحرار، «الميثاق الوطنى» (بالعربية) و«المغرب» (بالفرنسية). وتأتى هذه التجربة نتيجة رحلة طويلة متعددة الأوجه خارج بلاده قبل عودته إليها عام 1976، ليسهم فى مسيرة التطور والازدهار التى تشهدها المغرب.
إن الانخراط فى الاتصال والصحافة لم يكن بعيدًا عن مبادرة إطلاق منتدى أصيلة، الذى جمع بين الثقافة والدبلوماسية. ففى عام 1977 تم تدشين موسم أصيلة، الذى تحول إلى مناسبة ثقافية تستقطب الكُتاب وأهل الفن والإبداع، إلى جانب ساسة ودبلوماسيين وصناع القرار من كافة بقاع العالم. وأدى نجاح هذه الفكرة ونشاطاتها الملحوظة إلى تقلد صديقنا الراحل مهام وزارة الثقافة بين عامى 1985 و1992، ليستمر الوزير ابن عيسى فى الإسهام فى إضاءات ثقافية كثيرًا ما أتحفنا بها مغربنا العزيز. وظلت نجاحات منتدى أصيلة تفتح آفاقًا جديدة، وتمنح ثقة متجددة لجلالة الملك الحسن الثانى، رحمه الله، بالتوجه إلى الاستفادة من ملكات صديقنا الراحل الدبلوماسية بتعيينه سفيرًا للمملكة المغربية فى واشنطن. وتزايدت هذه الثقة بتكليف الوزير ابن عيسى وزارة الشئون الخارجية فى إبريل 1999 بانضمامه إلى حكومة التناوب التى كان يقودها الراحل عبد الرحمن اليوسفى.
• • •
أتوقف فيما يتعلق بمهام الصديق الراحل فى الحقل الدبلوماسى عند قضية مهمة أخذت من وقته وجهوده، ذلك أنه عند متابعة إضافات وزيرنا الراحل ونجاحاته فى إدارة دفة الدبلوماسية المغربية لمدة ثمانية أعوام، يتطرق الكثيرون إلى الفضاء العربى، وهو أمر محسوم تقليديًا كرافد أساسى وجوهرى لسياسة المملكة المغربية الخارجية. إلا أنه لا يفوتنى هنا اهتمام وزيرنا الراحل بالقارة الإفريقية من خلال عمله كوزير، وذلك للتأكيد على حضور قارتنا السمراء فى حوارات أصيلة. ولا عجب فى ذلك، فقد بدأ تواصله مع إفريقيا أثناء تأديته مهامه الدولية فى أديس أبابا وغانا، ثم ما انفك يعمق علاقات بلاده مع الدول الإفريقية، مؤكدًا ضرورة تطوير علاقات الجنوب مع الجنوب، قبل أن تترسخ هذه العلاقات كمسار سياسى واقتصادى جديد.
وفى إطار اهتمامه المستمر بإفريقيا حتى بعد انتهاء مهامه الوزارية، جاء نداء مشترك مخصص لمستقبل إفريقيا، وقّعه وزيرنا الراحل مع مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية السابقة، بمناسبة انعقاد الدورة الثانية والثلاثين لقمة الاتحاد الإفريقى فى 10 فبراير 2019 فى أديس أبابا. جاء النص العميق مكرسًا لمستقبل إفريقيا فى عالم جديد من خلال توصيات ثاقبة للاتحاد الإفريقى وقادة القارة لوضع إفريقيا على طريق الحداثة والتنمية.
كان النص المشترك بمثابة خارطة طريق للتعاون الإفريقى والتنمية فى القارة. ولا غرابة إذًا أن يخصص وزيرنا الراحل يومين كاملين فى الدورة الخامسة والأربعين لمنتدى أصيلة فى العام الماضى لإشكالية الحدود فى إفريقيا والتعاون الجنوبى/جنوبى، والتى تشرفت بإدارة إحدى جلساتها.
• • •
أخيرًا وليس آخرًا، لا يفوتنى التنويه بأحد خصال صديقنا الراحل. فجميعنا عرفنا فى الوزير ابن عيسى سمات أخلاقية عديدة، كان التواضع إحداها. ويجدر الذكر هنا أن وزيرنا كان قد نشأ فى كنف أسرة يغلب عليها الطابع الدينى والصوفى، وبدأ تعليمه فى المدرسة القرآنية. ولا جدال فى أن التربية الأسرية وتعليمه المبكر واللاحق، فضلًا عن خبرته والمسئوليات التى تقلدها، أهلته للثقة فى النفس والتواضع.
لكن الراحل محمد بن عيسى يرتبط فى ذهنى بميزة أخرى استثنائية، ألا وهى الوفاء. فبحضور جمع كريم من ضيوف أصيلة، تجمعوا فى بيته العامر فى أكتوبر 2023، أشار الوزير ابن عيسى إلى ارتباطه بليبيا، ذاكرًا لنا جميعًا أنه قبل إنهائه دراسته الثانوية فى أواخر الخمسينيات، اختير كمرافق لأحد المشاركين فى أعمال اللجنة الاقتصادية لغرب إفريقيا فى طنجة. رافق حينها الشاب محمد بن عيسى رئيس وفد ليبيا. ومن شدة إعجاب رئيس الوفد الليبى بالشاب المغربى أنه قام بإسداء نصيحة له تتعلق بضرورة التوجه إلى جامعة فى الولايات المتحدة لإكمال تكوينه العلمي، الأمر الذى سيسمح لشابنا المغربى اليافع بإتقان اللغة الإنجليزية، إضافة إلى إجادته اللغتين العربية والفرنسية، فضلًا عن التحصيل الأكاديمى. فما كان من صديقنا الراحل إلا أن تقدم بطلب لنيل منحة جامعية من السفارة الأمريكية فى القاهرة بعد إجراء امتحان القبول اللغوى، ليتحصل بالفعل على منحة أمريكية. ومن ثم، حصل الوزير ابن عيسى على شهادة البكالوريوس فى علوم الاتصال من جامعة مينيسوتا عام 1963، ثم على دبلوم الاتصال السمعى البصرى من جامعة كولومبيا عام 1964. جاءت النصيحة الليبية نتيجة تجربة شخصية خاضها وزيرنا فى عهد المملكة الليبية، د. على اعتيقة، فى الولايات المتحدة، حيث حصل على الدكتوراه فى الاقتصاد من جامعة ويسكنسن عام 1959.
وفى إحدى زياراته للكويت بعد توليه عام 1985 حقيبة وزارة الثقافة، طلب وزيرنا بن عيسى موعدًا مع أمين عام منظمة الدول العربية المصدرة للبترول (أوابك)، الذى استغرب طلب هذا الموعد لعدم وجود علاقة واضحة بين عمله فى المجال البترولى والثقافة فى المغرب. وعند استقبال د. على أحمد عتيقة، أمين عام (أوابك)، لوزيرنا الراحل، فوجئ به يشكره على نصيحته الثمينة التى قدمها له فى طنجة عندما كان د. على أحمد عتيقة رئيسًا للوفد الليبى المشارك فى أعمال اللجنة الاقتصادية لغرب إفريقيا، وأخبره بأن تلميذ المرحلة الثانوية المغربى درس بالفعل فيما بعد فى الولايات المتحدة بناءً على نصيحته.
وفضلًا عما تم فى هذا اللقاء الرائع فى الكويت، وما تضمنه من خصال العرفان والوفاء، فإن سرد هذه القصة لى بحضور ضيوفه الكرام دلل على تعلق رجل الدولة المغربى ببلادى واعتزازه بأواصر الصداقة والمودة التى تربط بلدينا، المغرب وليبيا.
إننا لا نفقد صديقنا الراحل، لأن ذكراه العطرة ستظل حية فى قلوبنا وجوارحنا.
سيبقى محمد بن عيسى معنا كرجل الدولة، وأيقونة الدبلوماسية، ونصير الثقافة والانفتاح على الآخرين.
كما لن ننفك عن الاعتزاز برجل الوفاء والأصالة.
رحم الله ابن المغرب والعرب البار، عزيزنا محمد بن عيسى، وطيب ثراه.
وزير خارجية ليبيا الأسبق