كثيرون منا علاقتهم بالتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل يشوبها شىء من التناقض: حب وبغض، التصاق وهجران، رغبة فى معرفة كل الأنظمة والبرامج الحديثة أو محاولة الاكتفاء بما نعرف. هى علاقة معقدة، متشعبة، ومتناقضة تختلط فيها الأمور والأوضاع، ولا يشبهها فى ذلك سوى بعض أو كل علاقات الحب والعشق الأول!.
 
 
• • •
هى توصلنا بمن نحب وتنقل لنا أخبارهم إذا أرادوا ذلك، وهى أيضًا تنقلنا إلى عوالم وصور ومناظر ومعارف بضغطة زر، وتمنحنا القدرة على أن نكون فى أكثر من مكان فى ذات اللحظة. لكنها أيضًا تقتحم عزلتك حين تكون بأشد الحاجة إليها، تتطفل عليك أو تسمح لآخرين بذلك، وأحيانًا تعيد لك وجوهًا وصورًا كنت قد وضعتها فى ملف النسيان، وفجأة تبرز رسالة: «أعطانى أحدهم هذا الرقم لك بعد طول انقطاع، فإذا كان صحيحًا، الرجاء إرسال عنوان بريدك الإلكترونى».
• • •
رسالة قصيرة جافة كأنها قادمة من مقبرة بعيدة، مقبرة بلا شواهد ولا ورود ولا أشجار!! محايدة رغم أن الحياد أصبح من أكثر الأمور صعوبة وتعقيدًا. ومع قراءة الاسم فى آخر الرسالة، تبخر الاستغراب من الرسالة المتصحّرة لأنها تشبه صاحبها. هو كان أحد رؤسائى فى المنظمة الدولية، مديرًا، بل موظفًا أمميًا يجيد فنّ الدوران حول لا شىء، رجل المكاتب اللامعة والقرارات المؤجَّلة، بيروقراطى أنيق يتقن لغة العجز المنظّم، رئيس يوزّع الكلمات كما يوزّع الوقت على الاجتماعات، وهو حتمًا مدير بلا قضية، لكن بجدول مزدحم. واحد بين كثيرين ممن عملت معهم فى تلك المنظمات الدولية، وهم جميعًا والمنظمات تلك، يشكلون مادة دسمة لكتاب سيكون الأكثر مبيعًا ربما؟! «أن تنقل الصورة من المطبخ»، هكذا قال لى أستاذى.
• • • 
أعدت قراءة الرسالة الباهتة وأخذت نفسًا عميقًا مستعيدةً بعض تهذيبى الذى أعمل جهدى ألا أتخلى عنه رغم انتشار مرض الوقاحة، وأرسلت عنوان بريدى الإلكترونى الذى طُلب فى رسالة قصيرة تُعدّ منتهى الحميمية مقارنة بما أُرسل.
• • •
لم تمضِ فترة طويلة إلا ودق الجرس حاملًا اسم «الرجل الأبيض» الذكورى حتى النخاع، أو ربما هو، ككثيرين من المسئولين فى تلك المنظمة، يرددون شعار التمكين والمساواة وحقوق المرأة، وهم فى نهاية المطاف يرون أن مكان المرأة هو فى الخلف أو لكتابة محاضر الاجتماعات المملة. فى نفس تلك المنظمات تعشش الأمراض التى تكافحها هى بمبادئها وقيمها التى خطّها الأولون منذ تأسيسها.
• • •
جاءت الرسالة طويلة، لم تكن خاصة، بل لكل أعضاء الفريق الذى كان معنيًا بإعادة هيكلة المنظمة الدولية. لم أتمالك نفسى من الضحك، بل القهقهة، ورحت أكلم نفسى: لم يتغير شىء!
• • •
وتساقطت الصور المتراكمة على مرّ فترةٍ من الزمان فى أروقة المنظمات الدولية، حيث النفاق ليس عيبًا بل مهارة، يُدرّس ضمنيًا فى كل اجتماعٍ واحتفالٍ ومأدبة عشاء. تنتشر الابتسامات البلاستيكية وتكثر كلمات الإطراء المطاطة مثل: «أنتِ ملهمة»، «ما قدمتِه رائع»، «علينا أن نتعاون أكثر فى القريب». هم يتبادلون الثناء كما بطاقاتهم الشخصية، يحيطون الفشل بعبارات التشجيع، وكل ذلك عبر كلمات منتقاة يسمونها «مهنية» وكثير من الابتسامات المطاطة!!
• • • 
أعادت الرسالة نفس السؤال: أَلَمْ يحن الوقت لإعادة النظر فى هذه المنظمات لتكون أكثر فعالية كما كان هدفها منذ التأسيس، أى بعد الحرب العالمية الثانية، حيث جاءت بوعد ألّا تتكرر المآسى والحروب والظلم؟ إلا أنه فى كل عام، تُعقد القمم وتُطلق المبادرات فى قاعات الفنادق الفخمة، يُعاد المشهد نفسه: كلمات رنانة، صور تذكارية، تصفيق، ثم لا شىء! يخرج الجميع مقتنعًا بأنه قد أحدث تغييرًا عبر البيانات والتقارير، ويستعد لعنوان الجلسة القادمة، لكن يبقى الفقر والبطالة والعوز والظلم أكثر انتشارًا من الأمراض المعدية.
• • •
بالطبع هناك كثيرون فى هذه المنظمات لا يزالون مؤمنين بقيمها، ويعملون بجهدٍ وجدٍّ وبكثير من الصمت خارج المؤتمرات والقاعات الضخمة، وهم من يعرفون أن العالم بحاجة الآن إلى مراجعة شاملة لهذه المنظمات، ليس فقط فى هياكلها، بل فى أخلاقياتها ومعاييرها.
• • •
أغلقت الرسالة والجهاز، ولم أفكر حتى فى أن أرد أو أنضم إلى «الجوقة» التى أعادت صورًا ليست فى معظمها مفرحة، ولا كلها محزنة طبعًا!
كاتبة بحرينية