النفخة الإلهية فى الإنسان الأول - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 6:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النفخة الإلهية فى الإنسان الأول

نشر فى : الجمعة 31 مايو 2019 - 8:05 م | آخر تحديث : الجمعة 31 مايو 2019 - 8:05 م

عن المساحات المشتركة فى الكتب المقدسة: (العهد القديم ــ العهد الجديد ــ القرآن الكريم) مساحة قصة الخلق، فقد اتفقت الكتب الثلاثة على أن الله خلق الإنسان من الأرض التى خلقها قبل خلق الإنسان، وأنه خلقه من تراب وطين. ليس ذلك فقط بل إن المُشترك الذى يدعونا للعجب والفخر، هو أن الله نفخ فى الإنسان من روحه، هذه النفخة ــ وهى فى اللغة ــ مجرد كلمة، فعل، حولت الطين إلى بشر فيه حياة، ولم تكن هذه النوعية من الحياة هى نفس نوعية الحياة التى أُعطيت لباقى الكائنات التى خلقها الله. فالحيوانات والطيور خلقها الله بدون نفخة من روحه، لكن نفخة الله للإنسان جعلت منه مخلوقًا عاقلًا متفردًا، وأهم من كل ذلك جعلته كائنًا روحيًا. والسؤال: ماذا نعنى بأن الإنسان كائن روحي؟!، المعانى كثيرة ومتعددة لكن أهمها ــ بحسب وجهة نظرى ــ أن نفخة الله داخل الإنسان جعلت لديه توجهًا وتطلعًا نحو (مصدر وجوده) الله الذى خلقه، وهكذا تولدت فيه نزعة نحو إقامة علاقة روحية تشمل كل كيانه (العقل – الجسد – الروح – النفس)... إلخ.

بالطبع هذا التقسيم، هو تقسيم الفلسفة اليونانية القديمة، ولذلك تحدثت الكتب المقدسة عن أن الجسد هو مركز الأهواء والشهوات، والروح هى مركز العلاقة مع الله، وكلما مال الإنسان بعقله ونفسه نحو الروح وقمع الجسد، كلما كان أكثر قربًا لله، لكن العلم الحديث فى تطوره، قدم لنا تفسيرات وتعريفات جديدة لكيان الإنسان، فعلمنا أن الإنسان يتكون من جسد مادى يشغل حيزًا من الفراغ، نراه ونعرفه، ونلمسه جميعًا، وهو ما خلقه الله من الطين، ضمن هذا الجسد الرأس التى تحتوى فى جزء منها على المخ والذى به مراكز التفكير(العقل) والأحاسيس المختلفة، والتى تحتوى على العاطفة والذكاء والروح... إلخ. إنها النفخة الإلهية التى حولت الطين الأصم، إلى كائن حى يفكر، ويحس، ويتألم، ويحزن، ويفرح، ويتطلع إلى إلهه، بشوق لمعرفته، وإقامة علاقة معه. ولو أدرك جميع البشر هذه الحقيقة وعاشوها لتحولت الأرض إلى جنة، لكن الأمر تعقد جدًا عندما ظنت كل مجموعة من البشر، عرقية كانت أم دينية، أنهم بأجسادهم المحدودة بالزمان والمكان، وعقولهم التى تموت مع أجسادهم احتكروا الله (الحقيقة المطلقة) بحسب تفكيرهم، وتنظيرهم. وبدلًا من التركيز على النصوص المقدسة التى تحض على قبول الآخر المختلف، والتفاعل والتكامل معه، فى إطار نفخة الله فى الإنسان بروحه، فعلوا العكس تمامًا، تمسكوا بما يميز هويتهم الجسدية الأرضية مثل: اللغة والخلفية الثقافية، والحضارية، على أنها هى التفسير الوحيد للوحى المقدس، وغيره باطل وهم لا يعلمون أن نفخة الله فى الإنسان لا تحدها حدود الحضارة، والثقافة أو اللغة والدين... إلخ، إنها أكبر من ذلك بكثير، ولكى نثبت ذلك علينا أن نأخذ ملاحظة توضيحية أولها العلاقة بين الحرف فى اللغة والمعنى.

***
فعندما نقول مثلًا كلمة «طريق» يتداعى إلى الذهن الطريق العام والطريق الخاص، الطريق ذو الاتجاه الواحد والطريق ذو الاتجاهين، الطريق الذى يتسع لحارتين والطريق الذى يتسع لست حارات، الطريق المسدود والطريق المفتوح، الطريق إلى الله، والطريق إلى إبليس... إلخ، إذن الحرف لا يُعبر عن المعنى كاملًا. والمثل التوضيحى الآخر: نلاحظ أننا عندما نقرأ كتابًا ما (رواية تاريخية – قصة واقعية – وصفا لحدث... إلخ) نختلف فى فهمها أو إدراكها، لأن كل شخص منا يفهمها من خلال خلفيته الثقافية، أو العلمية، أو الدينية، لذلك ظهرت نظرية موت المؤلف أو حجبه، لأن المؤلف مجرد أن خرجت الرواية من عنده مكتملة، صارت ملكًا للقارئ يفسرها كما يحلو له وليست ملكًا للمؤلف. وهذا المثل يعبر عن تعدد الفهم للكلمة بعدد القراءة لها.

عندما اكتشف الإنسان اللغة عبر عن نفسه بالكلمات عما يعتقد به، وظهور اللغة فى التاريخ البشرى بدأ بالإشارة بالأيدى والأقدام والجسد كالرقص فى الفرح، والسكون فى الحزن، والتلويح فى الغضب... إلخ، ثم تُرجمت الأصوات إلى لغات. وكانت شفاهية لملايين السنين، إلى أن تحولت إلى مكتوبة بعد اكتشاف واختراع الكتابة والتى اختلفت من مكان لآخر ومن حقبة لأخرى، ومع الزمن وجدنا أن هناك لغات ماتت، وهناك لغات ما زالت حية تتحدى الزمن. المهم أنه بدخول الأديان إلى عالم الإنسان ظهرت قداسة الكلمات، أو الكلمة المقدسة وهنا صرنا نعتقد بإيمان صارم وجماعى، أن ما نستخدمه من مفردات وكلمات سوف يقودنا إلى «الحقيقة المطلقة». وهذه العبارة بها تناقض، فالحقيقة إذا كانت مطلقة لا تحدها لغة. ونحن نستخدم مصطلح «العلم نور»، «والجهل ظلام». وبالطبع هذه الصفات ليست مطلقة كالحقيقة المطلقة، لأن ما أعتبره أنا علمًا نورانيًا، يعتبره آخر جهلًا مُطبقًا، والعكس صحيح.

***
وكل طرف هنا يستخدم مراجع ضخمة وتحليلات لغوية.. إلخ. لكن العجيب فى هذا، أن علماء اللغة وفلاسفتها ومنظروها اتفقوا على أن الصوت ــ كما هو معروف للجميع ــ لا يبين اللون، والعكس صحيح، اللون لا يبين الصوت، وتطبيقًا لهذه المقولة العلمية الواقعية الصحيحة، يرددون «كيف للحرف أن يبين المعنى والحقيقة»، حيث إن العلاقة بين الحقيقة والحرف علاقة عكسية وليست علاقة طردية، كما نظن، فالمعنى يحبسه الحرف ويحده فى مجرد كلمات. يقول النفرى «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». أى أن الإنسان الذى لديه رؤية يصعب عليه بشدة أن يعبر عنها بالكلمات، فيعيشها بحياته، وتكون حياته أوسع وأكبر كثيرًا من كلماته، وكلمات أتباعه، وتلاميذه. لذلك يقول جاك لاكان «إن الحقيقة تتوارى عن اللغة». بمعنى أن اللغة لا يمكن أن تُحْكم الحقيقة وتعبر عنها تعبيرًا كاملًا أو مكتملا، لكن العكس هو الصحيح. اللغة تحد الحقيقة فى إطار كلماتها، وبسبب تلك المعضلة بالتحديد، أشار إيريك فروم فى كتابه الضخم «الإنسان بين الجوهر والمظهر» إلى ضرورة التمييز فى علاقة الإنسان مع العلم، سواء كان طبيعيًا، أم دينًيا. وعلى العلماء أن يميزوا بين الكينونة والتملك، أى بين الفكرة العلمية أو الفقهية أو اللاهوتية فى ذاتها، وبين فهم غيرهم من العلماء لها، ففهمنا للفكرة والتعبير عنها ليس هو الفكرة فى عمقها، ومجمل محتواها، ودليلنا على ذلك اختلاف التفسير للكتب المقدسة من النقيض إلى النقيض، على ذات الفكرة، من نفس أتباع الدين ذاته. ولذلك ظهرت المذاهب والطوائف والملل والنحل.. إلخ، والتى لا تُعد من الكثرة، لذلك يأتى الحل عند عودتنا لحادث الخلق، فقد «جبل الرب الإله آدم تُرابًا من الأرض ونفخ فى أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسًا حيًة». الكتاب المقدس. ‏‏«ونفخنا فيه من روحنا». القرآن الكريم، لنعود معًا إلى تلك النفخة فهى التى يتفق عليها أتباع الأديان ومعظم البشر، وتحضرنى هنا قصة لجلال الدين الرومى وهو مسلم متصوف من خلفية مسيحية، يحكى أن الرسول كان يصلى الفجر ومعه بعض أتباعه المسلمين، وكان من بينهم واحد من الأعراب ذوى الطباع الحادة. بدأ الرسول فى قراءة جزء من القرآن، حتى جاء إلى الآية التى يُعلن فيها فرعون سلطانه بقوله: «أنا ربكم الأعلى». وهنا امتلأ ذلك البدوى بالغضب فصرخ بصوتٍ عالٍ: «فرعون بن الفاجرة». لم يعلق الرسول على الرجل. لكن بعد انتهاء الصلاة بدأ بعض المصلين يوجهون كلامهم للرجل قائلين: ألا تخجل من نفسك؟ بالتأكيد صلاتك لا تُسِر الله، ولن تكن مقبولة عنده، ليس فقط لأنك أسأت إلى الصمت المقدس، وخرقته بكلماتك الخارجة المنحطة أمام الله، بل لأنك أسأت أيضًا للرسول. خجل الرجل الإعرابى من نفسه وامتلأ خوفًا، من انتقام الله، وهنا جاءت رسالة من جبريل إلى الرسول قائلة: الله يُرسل تحياته لك، ويُعطيك أن توقف هؤلاء الناس الذين يلومون ذلك الإعرابى البسيط، لأن كلماته البسيطة التلقائية حركت قلبى فى داخلى أكثر من الصلاة المقدسة للآخرين الذين انتقدوه.

وهنا يعلق جلال الدين الرومى بالقول: «الله ينظر إلى قلوبنا وليس شفاهنا» ـ وهذا نص من الكتاب المقدس ـ وأنا هنا أقول: «أليس من الأفضل أن نتجاوز كل اختلافاتنا مع كل البشر بكل تنويعاتهم، ونعود إلى النفخة الإلهية للإنسان الأول، فهى التى تجمعنا جميعًا بدون استثناء أحد حتى غير المؤمنين بالأديان السماوية»؟!.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات