الأسئلة أكثر من الإجابات فى دعوة الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» لجبهة إقليمية ودولية عريضة تحارب الإرهاب.
تحت أى أفق سياسى وبأى وسائل عسكرية؟
هذا أكثر الأسئلة جوهرية.
ما الممكن وما المستحيل فى ظل تناقضات فادحة بين الدول المقترح أن تشملها الجبهة؟
وهذا أكثر الأسئلة عملية.
بين ما هو جوهرى وما هو عملى المبادرة كلها غامضة كأنها مقصودة لأهداف أخرى تستجلى حدود التغيير الممكن فى السياسات والمواقف.
ما الذى تطلبه موسكو من الإلحاح على مبادرتها رغم إدراكها أنها شبه مستحيلة؟
هنا صلب كل الأسئلة.
لا يخفى على القيصر الروسى، وهو رجل استخبارات قبل أن يكون رجل سياسة، أن مبادرته لا تقف على أى أرض شبه صلبة ولا قابلة للتنفيذ فى أى مدى.
ككل القياصرة الروس الكبار يدرك أن هيبة الكرملين من قوة سلاحه.
استضافة ثلاثة من القادة العرب فى توقيت يتزامن مع افتتاح معرض عسكرى تتجلى فيه أحدث التقنيات والأسلحة ليس من قبيل المصادفة.
الأحاديث المتواترة فى مصر عن صفقات سلاح متوقعة ومشروعات اقتصادية منتظرة ليست أولويات صانع السياسة الروسى.
هو تعنيه أولا التفاهمات الاستراتيجية رغم أهمية الصفقات والمشروعات لإنعاش اقتصاده.
روسيا كأى دولة كبرى أخرى تبحث عما هو مستقر وثابت وقابل للحياة لفترة طويلة نسبيا.
فى صفقات السلاح هناك فارق بين الدول الكبرى والمولات التجارية.
ثمة شراكة ما فى استخدامه.
تلك مسألة سياسية قبل أن تكون عسكرية.
الانفتاح على موسكو يعنى بالضبط توجها لمد الجسور مع المراكز الدولية دون قطيعة مع واشنطن.
الانفتاح على مراكز دولية أخرى من أسباب الثبات النسبى الذى تمتع به النظام المصرى الجديد فى ظروف بالغة القسوة بعد (٣٠) يونيو.
أسوأ خيار ممكن، التراجع فى منتصف الطريق عن هذا التوجه أيا كانت الضغوط الأمريكية.
تنويع مصادر السلاح قضية حساسة لها ذات درجة الأهمية.
بحسب ما هو متاح من معلومات، الإدارة الأمريكية لا تتردد فى إبداء انزعاجها عند أى إشارات فى الصحف عن أى صفقات عسكرية روسية.
بتعبير اللواء «محمد العصار» نائب وزير الدفاع المصرى الذى يتولى ملف التسليح فإن «النموذج الهندى» هو الأنسب للمصالح العسكرية المصرية.
بمعنى الانفتاح تسليحيا على واشنطن وموسكو وتقوية الصناعات العسكرية المصرية فى الوقت نفسه.
لم تكن هناك مفاجأة مصرية واحدة فى كل ما طرح فى موسكو من مداولات رئاسية.
الزيارة طلبتها موسكو لأن لديها ما تريد أن تناقشه مع القاهرة على مستوى القمة.
جدول الأعمال اقترحته موسكو قبل أن تبدأ الزيارة.
كشفت مبكرا عن تساؤلات أساسية فى ملفات الإقليم تبدأ من سوريا وتمتد للأزمات الأخرى، سعيا لإجابات واضحة عن فرص أوسع توافق ممكن فى الأزمة السورية.
الأزمة السورية قبل غيرها.
الجبهة الإقليمية العريضة لمحاربة الإرهاب لم يكن صلب ما تطلبه موسكو.
الحديث أقرب إلى غطاء عام للدخول فيما هو ملح وممكن.
تطرقت الدبلوماسية الروسية إلى مبادرة الجبهة مع كل الذين التقتهم من الإقليم.
تحدث «بوتين» عن خطوطها العريضة مع نظيره التركى «رجب طيب أردوغان» فى باكو عاصمة أذربيجان.
لم تكن هناك تفاصيل ولا اقتراب من دور سوريا فى الجبهة الإقليمية المقترحة.
لوهلة تصور «أردوغان» أن روسيا بصدد مراجعة موقفها من النظام السورى الحالى وأنها لم تعد متمسكة ببقاء «بشار الأسد».
الاستنتاج وافق هواه السياسى، لا الحسابات الروسية.
فقد طرح «بوتين» مبادرته على وزير الخارجية السورى «وليد المعلم» الذى استغربها لكنه لم يعترض عليها.
المبادرة نفسها طرحت على المعارضة السورية دون أن يستدعى ذلك أى أزمة، فالكلام كله عام.
السعوديون استمعوا إلى الكلام نفسه والإيرانيون اهتموا به رغم إدراك الطرفين أنه شبه مستحيل.
لا شىء ممسوكا فى الكلام كله.
الغموض من طبيعة السيولة.
كل شىء فى الإقليم يتصادم والأطراف كلها فى حالة إنهاك.
الاستراتيجية الأمريكية فى الحرب مع «داعش» ثبت فشلها الذريع.
لم يعد أحد فى الإقليم مقتنعا بأنه يمكن دحر التنظيم المتطرف بمثل هذه الاستراتيجية.
الاتفاق النووى الإيرانى أضاف تساؤلات جديدة على الموقف المتأزم.
لا توجد تصورات أمريكية واضحة عن أى ترتيبات إقليمية محتملة.
الغرب اندفع إلى طهران بحثا عن مصالح اقتصادية واستراتيجية.
وهذا طبيعى للغاية فى حسابات الدول الغربية الكبرى.
نفس هذه الدول تقلقها شرارات النار التى بدأت تتطاير عبر المتوسط إلى حواضرها منذرة بأيام صعبة مقبلة.
بدأت تضجر من ارتفاع معدلات الهجرة غير الشرعية وتشكو من عدم قدرتها على تحمل تبعات النزوح البشرى إليها من البلدان العربية المنكوبة بحثا عن ملاذ آمن.
فى المبادرة الروسية رسالة ضمنية إلى أوروبا أنها مستعدة للتعاون إلى أقصى حد ممكن فى ضمان سلامة دولها.
رسالة عامة لكنها ضرورية فى ظل مخاوف لا يمكن إنكارها.
بمعنى آخر تحاول روسيا تخفيض أزمتها مع الاتحاد الأوروبى فى أوكرانيا بتوافقات محتملة فى الشرق الأوسط تحت ضغط الفزع المشترك.
حين افتقدت السياسة الأمريكية القدرة على الإقناع وبدا التحالف الذى أعلنته لمحاربة الإرهاب فاشلا تماما، تقدمت موسكو للإمساك بزمام المبادرة.
تستند فى تحركاتها على علاقات متماسكة يشوبها أحيانا بعض التوترات المكتومة مع إيران وتعرض وساطتها لتفاهمات عربية ممكنة معها.
فى التحرك الروسى ديناميكية تسعى لخفض التوتر فى الإقليم المشتعل وحل عقدته المستعصية فى سوريا.
التقدير العسكرى الأمريكى يعتقد أنه لا سبيل إلى دحر «داعش» فى العراق ومنع تمدده إلى دول أخرى فى الإقليم ما لم تُنهَ الأزمة السورية.
لا أحد تقريبا فى العالم أو الإقليم يقول إنه من الممكن حسم الصراع فى سوريا عسكريا.
غير أن التناقضات الفادحة بين الدول الإقليمية الرئيسية تطيل أمد الحرب الدموية وتباعد احتمالات التسوية السياسية وفق وثيقة جنيف.
كل طرف يطلب الذهاب إلى موائد التفاوض وفق موازين قوة أفضل على الأرض.
اللعبة سوف تطول إن مضت على قاعدة طلب التغيير اليومى فى موازين القوة.
فى الأزمة السورية التفاهمات حقيقية وصلبة بين مصر وروسيا وصداها واصل إلى عواصم إقليمية مؤثرة فى الحوادث.
فكرة الجبهة الإقليمية شبه مستبعدة بالنظر إلى تناقضات الإقليم والتدخلات المحتملة للولايات المتحدة، بينما الكلام الدبلوماسى فى تسوية الأزمة السورية على أعلى درجات الأهمية والإلحاح.
من الخطأ الفادح أن يتلعثم العالم العربى حيث يجب أن يتكلم.
إذا لم تحل العقدة السورية فلا أمل فى أى نجاة.