مهام المبعوث تتركز على تثبيت الهدنة بغزة وتنسيق المساعدات الإنسانية وتعزيز الحوار مع الدول العربية
نجاح بنكو يتوقف على بناء جسور ثقة مع العرب وتجنّب الانحياز لإسرائيل وتحويل الحياد النمساوي إلى دبلوماسية فاعلة
في تطور دبلوماسي لافت يعكس سعي فيينا إلى استعادة صوتها المستقل في السياسة الدولية، أعلنت وزيرة الخارجية النمساوية بياته ماينل-رايسينجر، مساء الجمعة 31 أكتوبر، تعيين كبير مستشاريها الدبلوماسي أراد بنكو مبعوثًا خاصًا للشرق الأوسط، على أن يتولى مهامه رسميًا مطلع يناير المقبل. القرار، رغم طابعه الإداري الظاهر، يحمل دلالات أعمق تتجاوز الهيكل الوزاري إلى إعادة صياغة موقع النمسا في واحدة من أكثر مناطق العالم اشتعالًا، ويكشف رغبة حقيقية في الانتقال من دبلوماسية التعاطف إلى دبلوماسية التأثير.
جاء الإعلان بينما تشهد المنطقة وقف إطلاق نار هشًا في غزة بعد حربٍ مدمّرة، وفي خضم جدل أوروبي محتدم حول كيفية التعامل مع حكومة إسرائيلية تواجه اتهامات بانتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني. وفي خضم هذه الأجواء، وصلت الوزيرة ماينل-رايسينجر إلى القاهرة للمشاركة في افتتاح المتحف المصري الكبير ممثلةً للنمسا، في زيارة اتخذت طابعًا ثقافيًا رسميًا، لكنها عبر المباحثات مع وزير الخارجية بدر عبد العاطي، أعطت زخما لمبعوثها إلى المنطقة قبل أن يبدأ عمله. بل إنها مهدت الأرض له عبر إعلانها في البيان الرسمي أن "الشرق الأوسط يقف على أعتاب فرصة جديدة للسلام والاستقرار"، وأن "النمسا مستعدة لتقديم دعمها المالي والمساهمة بالخبرة في جهود إعادة الإعمار والحوار بين الأديان". وقدمت في تصريحاتها إشادة واضحة بالدور المصري في تثبيت وقف إطلاق النار في غزة.
- بين الدافع الداخلي والمغزى الخارجي

بدر عبد العاطي خلال لقاء وزيرة خارجية النمسا بالقاهرة
جاء قرار تعيين مبعوث نمساوي للشرق الأوسط بعد أسابيع من ما يمكن وصفه بـ "انتفاضة دبلوماسية نمساوية" غير مسبوقة، حين وقّع 26 دبلوماسيًا بارزًا – من وزراء خارجية سابقين وسفراء حاليين – رسالةً مفتوحة دعت الحكومة إلى تبنّي موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل، بل إلى دعم عقوبات أوروبية ضدها.
الرسالة، التي وصفتها الصحافة المحلية بأنها "هزة في المؤسسة الدبلوماسية"، عرّت الانقسام المتنامي داخل الدولة بين تيارٍ سياسيٍّ يلتزم بالتحالف مع إسرائيل لعوامل تاريخية مرتبطة بالحقبة النازية، ونخبةٍ دبلوماسية ترى أن هذا التحالف يضرّ بمكانة النمسا وحيادها التاريخي. في هذا المناخ المشحون، يصبح تعيين مبعوثٍ خاص للشرق الأوسط خطوة تتجاوز الإجراءات، لتصبح آلية امتصاصٍ للأزمة الداخلية، وأداة لإعادة التموضع الخارجي في آنٍ معًا.
داخليًا أيضا، يمثّل القرار محاولة من الوزيرة ماينل-رايسينجر لترميم التوازن الذي تآكل في السياسة الخارجية النمساوية خلال العقد الأخير؛ فمنذ حقبتي المستشارين المحافظين سيباستيان كورتس وكارل نيهامر، اتسم الخطاب الرسمي بانحيازٍ صريح لإسرائيل، وغالبًا ما اختُزلت القضايا الشرق أوسطية في بعدها الأمني.
ومع تولّي الحكومة الثلاثية الحالية، التي تضم الحزب الليبرالي الجديد (NEOS) إلى جانب المحافظين (حزب الشعب) والاشتراكيين الديمقراطيين، سعت رايسينجر إلى تعديل الإيقاع؛ فزيارتها الميدانية إلى المنطقة في يوليو الماضي كانت مؤشّرًا على هذا التحول: تضامن واضح مع أمن إسرائيل، لكن مع جرأة غير معهودة في الدعوة إلى وقف الكارثة الإنسانية في غزة، وإلى حلٍّ سياسي ينهي دوّامة الدم.
تعيين بنكو الآن يأتي استكمالًا لذلك المسار، لكن أيضًا كتعبير عن نضوجٍ سياسي داخل وزارة الخارجية؛ فالوزارة لم تعد تكتفي بدور المراقب الذي يُصدر بيانات "قلقة"، بل تبحث عن أداةٍ تنفيذية تترجم الخطاب إلى عمل: تنسيق بين الإغاثة والتنمية والسياسة، واستعادة لمفهوم "الحياد الفعّال" الذي أسّس لهيبة فيينا الدبلوماسية منذ عهد برونو كرايسكي (1911- 1990)، المستشار الأسطوري الذي جعل من فيينا عاصمة للحوار والوساطة في السبعينيات.
كان كرايسكي – وهو يهودي الأصل – أول زعيم أوروبي يمنح منظمة التحرير الفلسطينية اعترافًا سياسيًا، وأول من جمع السادات وشيمون بيريز في النمسا.. فلسفته كانت بسيطة: أمن إسرائيل يمر عبر عدالة للفلسطينيين، ولا يجوز لأوروبا أن تكتفي بتكرار الموقف الأمريكي.
واليوم، حين تتحدث ماينل- رايسينجر عن "مساهمة مرئية في استقرار المنطقة"، فهي تستدعي – ولو جزئيًا – روح كرايسكي، لكن بوسائل القرن الحادي والعشرين: مبعوث ميداني، دبلوماسية إنسانية، وشراكات اقتصادية تُخفي وراءها حسابات سياسية دقيقة.
- هوية المبعوث ومهامه

كرايسكي
بنكو ليس وجهًا مجهولًا في أروقة السياسة الخارجية النمساوية؛ فمسيرته الممتدة لأكثر من خمسةٍ وعشرين عامًا شملت مواقع حساسة: سفير في أوكرانيا وجورجيا ولاتفيا، مدير للمركز الثقافي النمساوي في تل أبيب، ومستشار سياسي في بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو.
هذه المسيرة تعني أمرين: أولًا، أن الرجل يجمع بين الخبرة الميدانية في مناطق النزاع، وفهمٍ مباشر لملفات الشرق الأوسط عبر تجربته الإسرائيلية. ثانيًا، أن الوزيرة اختارت دبلوماسيًا "تقنيًا" لا سياسيًا، أي رجل مهمات لا رجل توجهات. وهذا بحد ذاته رسالة مزدوجة: تطمينٌ لإسرائيل بأن فيينا لا تغيّر اتجاهها جذريًا، وتطمينٌ للعرب بأن هناك عقلًا دبلوماسيًا محترفًا ليس أسيرًا للسرديات.
- وحددت الوزارة تفويض بنكو بدوائر رئيسة:

مبعوث النمسا للشرق الأوسط
الدائرة السياسية - الأمنية: دعم عمليات التهدئة الجارية وفق خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتنسيق مع جهود مصر وقطر وتركيا، ومراقبة الجبهات المتداخلة في لبنان وسوريا.
الدائرة الإنسانية - التنموية: ضمان توزيع المساعدات وفق معايير الشفافية، وربط التمويل النمساوي بمشروعات إنعاش مبكر للفلسطينيين في غزة والأردن ومصر، بعيدًا عن الأطر السياسية المثيرة للجدل.
الدائرة الاقتصادية - الأوروبية: تعميق التعاون التجاري والاستثماري مع دول الإقليم، بالتنسيق مع بروكسل، وبما يعزز موقع النمسا كلاعبٍ مكمل لا منافس للاتحاد الأوروبي.
هذه المقاربة "الوظيفية" تسعى لتخفيف حدة السياسة عبر تغليفها بالعمل الإنساني، وهي سمة مألوفة في المدرسة الدبلوماسية النمساوية التي تتجنّب اللغة الصدامية، وتفضّل التسلّل من منافذ القانون الدولي والإغاثة والتنمية.
- معادلة النجاح بين فيينا والمنطقة
نجاح المبعوث النمساوي سيقاس بقدرته على تحقيق ثلاثة توازنات دقيقة: أولًا: توازن الثقة مع الأطراف العربية، التي لا تزال تنظر إلى فيينا بشئ من العتب بعد عامين من الانحياز العلني لإسرائيل؛ والمطلوب هنا عمل ميداني يعيد المصداقية، عبر زيارات مبكرة إلى القاهرة ورام الله، ومشروعات ملموسة في قطاعي الصحة والمياه داخل غزة.
ثانيًا: توازن الخطاب بين الالتزام التاريخي بأمن إسرائيل وأيضا الالتزام بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة على خطوط الرابع من يونيو 1967، لا تأجيل الاعتراف بهذه الدولة حتى تجري مفاوضات تعلم فيينا أن إسرائيل لن تقوم بها في المدى المنظور أو المتوسط، وأنها ستعمل على "إدارة الصراع" لا حله، ولعل التجربة التاريخية تشير إلى طول أمد المماطلات الإسرائيلية في مسارات ما بعد أوسلو.. التي انتهت بقتل عرفات، والدولة الفلسطينية معه.
- بين الإرث والرهان
خطوة وزيرة خارجية النمسا بتعيين مبعوث للشرق الأوسط ليست تعديلًا إداريًا فحسب، بل بيان نوايا لإعادة تموضعٍ دبلوماسي محسوب؛ إن نجح المبعوث أراد بنكو في تحويل النوايا إلى نتائج – ترميم الثقة العربية، دعم الإغاثة، والمشاركة الفعالة في تثبيت التهدئة – فستكون فيينا قد دشّنت عودة ثانية إلى المسرح الدبلوماسي الشرق أوسطي المعقد بعد أربعة عقود من الغياب.
أما إذا اكتفى بالزيارات والبيانات، فستبقى الخطوة مجرد واجهة تجميلية رمزية. لكن المؤكد أن النمسا، بهذا التحرك، قررت مغادرة مقعد المتفرج لتعود إلى مقعد الوسيط، ذلك الموقع الذي أتقنته منذ عهد كرايسكي وظلّ أحد أسرار نفوذها الصامت وقوتها الناعمة في العالم.
الخلاصة أن فيينا تختبر اليوم قدرتها على أن تمارس حيادًا مؤثرًا لا حيادًا متفرجًا.