حجر السعادة.. المصور هو الحارث الأمين لتاريخ المدينة وحكايات أهلها - بوابة الشروق
الأربعاء 24 ديسمبر 2025 6:38 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

ما تقييمك لمجموعة المنتخب المصري في كأس العالم برفقة بلجيكا وإيران ونيوزيلندا؟

حجر السعادة.. المصور هو الحارث الأمين لتاريخ المدينة وحكايات أهلها

كتبت ــ إيمان صبرى خفاجة:
نشر في: الجمعة 17 مارس 2023 - 9:10 م | آخر تحديث: الجمعة 17 مارس 2023 - 9:10 م

يكمن سحر التصوير فى القدرة على أن يمسك المصور بتلابيب اللحظات السعيدة وكأنها لا تمر ويحولها إلى دليل قاطع فى وجه الزمن على أننا كنا هنا وحظينا بأوقات سعيدة، وهكذا يفعل فى الأوقات الصعبة، بل تتحول صورته إلى دليل الإدانة الوحيد على جرائم ماكينة الحرب التى تأكل الذاكرة، ومع مرور الزمن تتحول صورته إلى دليل على عظمة الإنسان فى قدرته على الصمود وانتصار الشعوب لحق الحياة، ولكن ماذا عن حياة المصور؟ عن ما يحمله على أكتافه من حكايات يعايشها يوميا وهو يجوب شوارع المدينة يوثق لتاريخها البشرى المتحرك؟ فبقدر ما تحمل الصورة من كادرات وشهادات يعانى صاحبها كذلك.
عن حياة كمال وجيل كامل من المصورين الذين تحولوا إلى شهود عيان على تاريخ العراق تدور أحداث رواية حجر السعادة للكاتب أزهر جرجيس الصادرة عن دار الرافدين للنشر والتى جاءت ضمن القائمة القصيرة للبوكر العربية لهذا العام.
نشأ كمال ابن أوسط لأسرة مسيحية من عائلات الموصل فى الخمسينيات، لكنه لم يكن ينعم بأى سلام داخل الأسرة أو خارجها، فالأب غيبته خيبات الأمل ومن ثم الخمور، وترك أبناءه فريسة لتحايل زوجته ومن ثم فريسة لثورات غضبه المتتالية التى أدت فى نهاية الأمر إلى شتات الأسرة؛ زوجت الأخت الكبرى غصبا من رجل يكبر أبيها ومن ثم الهرب لمصير كان ولسخرية القدر أكثر رحمة مما عايشته فى كنف الأب والزوج! ورحل الابن الأصغر فى حادث مفجع هرب كمال على أثره إلى شوارع بغداد خوفا من عقاب أبيه ظنا منه أنه المذنب! ليتبدل مصيره إلى الأبد ونشهد على حياوات أخرى أكثر غرابة بين شوارع واحدة من أعرق وأشهر المدن العربية.
فى البداية قد يرجع البعض منا حالة تلك الأسرة إلى تفكك اجتماعى وهو بالفعل كذلك لكنه ليس السبب الوحيد، فهذه الأسرة كانت رمزا لما عاشته العراق وعانته فى تلك الفترة من تاريخها من فقر وعوز انعكس على الناس فى استضعاف بعضهم البعض والسخرية من حياتهم بالحط من شئونهم وعدم الرغبة فى تحسين الأوضاع بل كان الاستسلام هو الحل الأمثل، وكان الأب هو رمزا لسلطة حاكمة وأسرته هى ما نتج عن سياسته التى نشهد أثرها فيهم وعلى رأسهم كمال.
استقر كمال على أرصفة بغداد لليال طويلة حتى ساقته الأقدار إلى خان يملكه أحد الشيوخ ممن يتخذون من الدين ستارا لتبرير أفعالهم ليعبر من خلاله الكاتب عن الفتن الطائفية والمذهبية التى تعانى منها العراق بوجه خاص والعالم بصفة عامة فبين حجرات الخان وقوانين مولاه ومنطقه فى التفسير كان هناك العديد من التجاوزات التى لا تخطر على قلب أحد، انتهاكات آدمية ألقت بكمال مرة أخرى إلى الشارع الذى أفقده إحدى كليتيه، ليكسبه فى نفس الوقت حياة جديدة!
صورة التقطها العم خليل المصور الأشهر فى شارع الرشيد لكمال وهو يجلس يحمل صندوق تلميع الأحذية حول عنقه ويفترش الرصيف ليحتسى كوبا من الشاى هو وجبته الوحيدة فى يومه الطويل، أصبحت الصورة نواة لتعاطف من قبل الأول تحول إلى علاقة أبوة تغلفها الصداقة، فعلى أثر الحادث الذى تعرض له كمال قرر العم خليل أن يتكفل برعايته لتبدأ حياة كمال فى التعرف على عالم التصوير ومن ثم احترافه فى رحلة يشهد من خلالها على تاريخ مظلم للعراق ويشهد على ميلاد جيل جديد من أولاد الشوارع، جيل لم تلفظهم عائلاتهم للشارع بل ألقت بهم الحرب عنوة إليه كمصير حتمى لا ملاذ منه سوى الموت الذى يطوق المدن العراقية.
فى يوميات كمال منذ الطفولة وحتى سنوات كهولته لم يكن الحظ حليفه، يخرج من مأزق إلى أزمات أكثر إيلاما وأشد قسوة من سابقتها وبالرغم من ذلك لا يفقد براءة الطفولة التى تمنعه من التنبوء بما قد يئول إليه مصيره، وفى تلك النقطة حتما يعترى القراء شيئا من الدهشة، فكيف لإنسان هذا الكم من التجارب المريرة بتلك الفطرة الطيبة؟!
تكمن الإجابة بين طيات الرواية وتاريخ العراق؛ أليس هذا هو الشعب العراقى؟! الذى لم يفقد شيئا من طيبته ومن محبته للعالم بالرغم من هذا الكم من الحروب الداخلية والخارجية وما تعرض له من طغيان سياسى على يد سلطاته الحاكمة، فجميعنا نشهد على العمالة المصرية التى عاشت فى العراق تتكسب منها المال والثقافة لسنوات طويلة كانت فيها الحرب العراقية الإيرانية على أشدها، وبالرغم من ذلك لم يضق بهم الشعب العراقى ولو للحظة واحدة، وكأن إنسانية العراقيين وفطرتهم المحبة للحياة هى طوق نجاتهم الوحيد الذى ينجيهم فى كل مرة ويوقفهم على أقدامهم وفى نفس الوقت يستفذ الطغاة ورعاة الحروب للمزيد من الانتهاكات.
بالوصول إلى هذا الجزء يتجلى تميز السرد الروائى فقد استخدم الكاتب أسلوب السرد الدائرى؛ فنقطة البداية هى جزء من نقطة نهاية الأحداث، وفى نفس الوقت اعتمد تقنية الفلاش باك فى سرده للأحداث والعودة إلى سنوات الماضى؛ فمشهد البداية ينتمى إلى الحاضر ومنه ينطلق ليروى ما حدث فى الماضى، وفى التقنيات التى جمع بينها الكاتب تشويق للقارئ وتوق للربط بين البداية والنهاية، بالإضافة إلى اللغة السردية التى طوع مفرداتها بأسلوب تتعرف من خلاله على المرحلة العمرية التى يمر بها بطل الأحداث وراويها بين الطفولة والشباب والكهولة.
كما لم يتطرق الكاتب إلى التأريخ الرقمى للأحداث والحروب بالرغم من أن الرواية فى مجملها تأريخ لأكثر من 60 عاما لحياة العراق حضارة وشعب، إلا أنه يرصد الأحداث من خلال التغيرات التى تطرأ على شارع الرشيد، وباقى شوارع العاصمة بغداد مرورا بالموصل التى تحولت إلى معقل للإرهاب والترهيب الدينى حين تم تمييز المنازل بالأرقام والحروف؛ هذا مسيحى، وذلك شيعى، وتلك الأسرة سنية.
لكن العنصر البشرى كان الرمز الأكبر لتلك التغيرات الجوهرية من خلال خليل وموريس المصورين اللذين عكف رفاق كمال على توثيق أرشيفهما التصويرى، هؤلاء الرفاق هم؛ صالح الصديق الوحيد لكمال الذى عبر الكاتب من خلاله عن من أدخلتهم السلطة السياسية للسجون وأخرجتهم الحروب لكنها لم تطفئ جذوة الحياة والوطنية بداخلهم.
نادية سيدة عراقية مستنيرة تعرضت للتهجير لكنها عادت مرة أخرى تجر أذيال هزيمة لم تستسلم لها وعكفت على تحويل منزل أبيها إلى متحف لحفظ التراث، الأمر الذى عرضها لملاحقات أمنية، لكنها لجأت إلى الكتابة كملاذ وحيد، تكتب مقالات تحث الناس على الخروج للمظاهرات، فى إشارة من الكاتب إلى نيران المقاومة والرغبة فى التخلص سطوة الإرهاب والقدرة على ذلك مهما كان الثمن الذى يدفع فى المقابل من الأثر والأرواح، بالإضافة إلى تسليط الضوء على رمزية الوطن فى المرأة العراقية، كما يؤكد فى هذا الجزء على أهمية الكتابة جنبا إلى جنب مع التصوير، فالحكايات إطار يبرز جمال الصورة ويعمق أهميتها.
تستمر الحياة التى نعد شهداء عليها من خلال نشرات الأخبار على هذا النحو لسنوات، يكتفى خلالها كمال بحماية نادية والتوثيق بالمزيد من الصور للناس والمدينة وشهادة يدلى بها فى أحد الأفلام الوثائقية عن الموصل، ومعاناة المصور حين يجد نفسه مجبرا على تصوير القبح كدليل إدانة، وهنا تتجلى رمزية عنوان الرواية ففى هذه الظروف هناك سعادة مرهونة بالمحاولات التى نصرخ تحت ثقلها كحجر قديم قد يبدو إزاحته من الطريق مستحيل حتى تسحقه الرغبة فى الحياة.
تلخصت تلك الرغبة لدى كمال فى الصورة الأخيرة التى وثق من خلالها عملية اختطاف ممنهجة كادت تودى بحياته، يقرر على إثرها الانتقام، لكنه لا ينتقل من الفاعل، يقرر الانتقام ممن يؤيدون المجرمين طواعية ويصفقون لهم تحت لواء الخوف أو المصالح، قرر كمال الانتقام من سماسرة الحروب ومن هؤلاء الذين يستخدمون بمحض إرادتهم كفتيل لنيران الفتنة وكأنها صرخة الكاتب كى ننتبه إلى المجرم الحقيقى، ولكن هل ينتقم؟ هل انتقمنا؟ هذا ما يتكفل به الأمر الواقع وما سوف نشهده فى المستقبل القريب.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك