• أيقونة السينما العالمية جسدت المرأة بجميع تناقضاتها.. وأحبها الجمهور من كل الجنسيات
• الممثلة الإيطالية ترى أن النجاح يصنعه الإيمان بالنفس والرغبة فى التعلم حتى بعد القمة
• وصفها تشارلتون هيستون بـ«نجمة السينما العالمية الوحيدة الصادقة»
فى عامها الحادى والتسعين، لا تزال صوفيا لورين تمثل رمزًا للسينما العالمية الملهمة، وجسرًا إنسانيًا وفنيًا ربط بين أوروبا الكلاسيكية وهوليوود المتألقة. ليست لورين مجرد وجه جميل أو ممثلة موهوبة فحسب، بل هى أسطورة حقيقية ساهمت فى صياغة معايير الأداء التمثيلى، والتمثيل النسوى فى السينما، ووضعت اسمها بحروف من ذهب فى تاريخ الفن السابع.
تسعة عقود من الحياة، وأكثر من ستة عقود من الفن الرفيع، جعلت من هذه الممثلة، المولودة فى روما عام 1934، رمزًا خالدًا للمرأة القوية والمبدعة، وصوتًا إنسانيًا عميقًا عبر عن قضايا المرأة، والحرب، والحب، والهوية، بلغاتٍ متعددة، أهمها لغة الصدق الفنى أو كما وصفها تشارلتون هيستون بـ«نجمة السينما العالمية الوحيدة الصادقة»، وقال عنها المخرج فيتوريو دى سيكا: «هى لا تحتاج إلى توجيه.. تجعلك تصدّق دون أن تنطق».
أتذكر فى عام 2000، وبالتحديد خلال الدورة رقم 34 لمهرجان القاهرة السينمائى كنت أرافق الفنان حسين فهمى رئيس المهرجان حينئذ، فى لحظة استقباله نجمة السينما الإيطالية بمطار القاهرة، وفى الطريق من الطائرة لصالة كبار الزوار حدثتنى صوفيا ببضع كلمات، بعد أن نظرت إلى جهاز التسجيل فى يدى، عبرت عن عشقها للحضارة المصرية وسعادتها بالحضور إلى القاهرة، وأنا بدورى بادلتها إعجابى الكبير بها وبأعمالها وذكرت أمامها عدد من الأدوار والاعمال التى برعت بها..ابتسامتها سمحت لى بأن اتحدث عن ابداعها فى فيلم «امرأتان»، وكيف لعبت فيه دور أم قوية الإرادة تتحدى اى اعتداء ومخاطر لحماية ابنتها خلال الحرب العالمية الثانية، ودورها فى فيلم «زواج على الطريقة الإيطالية»، وقالت لى إنه من ادوارها المفضلة وانها لم تنس شخصية «فيلومينا»، عاملة الجنس خلال الحرب العالمية الثانية، والذى صورت فيه امرأة معقدة تواجه ظروفًا مستحيلة، وانتهت دقائق الترحاب بيننا سريعًا لتغادر إلى مقر إقامتها.
نشأت صوفيا لورين فى ظروف صعبة بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها شقّت طريقها بعزيمة وإصرار. بدأت مسيرتها كعارضة أزياء وممثلة فى أفلام صغيرة، لكن موهبتها سرعان ما خطفت الأنظار، خصوصًا بعد تعاونها مع المخرج الكبير فيتوريو دى سيكا، الذى آمن بإمكاناتها وقدّمها فى أعمال شكلت تحوّلًا حقيقيًا فى مسيرتها، وبلغت ذروتها بفوزها التاريخى بجائزة الأوسكار عام ١٩٦٠ عن فيلم "امرأتان"، وهو أول فيلم أجنبى يفوز بهذه الجائزة. أشاد النقاد بجاذبيتها الفطرية وقدرتها على السيطرة على الشاشة، حتى فى أدوار لاحقة مثل عودتها فى فيلم "الحياة القادمة" (٢٠٢٠)، حيث جسدت الضعف والقوة بتعاطف حقيقى.
تميّزت لورين بقدرتها على المزج بين الواقعية الإيطالية الجديدة، التى سادت فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، وبين البريق الهوليوودى. كانت ملامحها المتوسطية القوية، وصوتها المميز، جزءًا من هويتها الفنية، لكنها لم تعتمد على جمالها فقط، بل كانت تُدخل عمقًا داخليًا لكل شخصية، حتى فى أدوارها الكوميدية أو الرومانسية.
لورين لم تكن مجرد ممثلة تمثل النص، بل كانت "تعيش" الشخصية، مستخدمة تعابير وجهها وجسدها بطريقة طبيعية وغير مفتعلة، وهذا ما جعل أداءها دائمًا صادقًا وقريبًا من الجمهور.
هنا سنتوقف عند بعض الأعمال والادوار المميزة التى التى تركت أثرًا دائمًا فى السينما.
يأتى فى مقدمتها (امرأتان) 1960، هذا الفيلم يُعد من أبرز أعمالها على الإطلاق. أدّت لورين دور الأم «تشيزيريا» التى تكافح لحماية ابنتها وسط أهوال الحرب. وقد قدّمت أداءً مفعمًا بالعاطفة والواقعية جعلها أول ممثلة تفوز بجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عن دور غير ناطق بالإنجليزية - إنجاز غير مسبوق فى تاريخ السينما آنذاك.
بعيدًا عن الأوسكار، أثبتت صوفيا قدرتها على الغوص فى أدوار معقّدة وشخصيات واقعية تمثّل معاناة النساء فى زمن الحرب، رافضة الصور النمطية السائدة فى تلك الحقبة.
فى فيلم (زواج على الطريقة الإيطالية) - 1964، أظهرت لورين طيفًا واسعًا من المشاعر، من الكوميديا إلى التراجيديا، إلى جانب النجم مارشيلو ماسترويانى. أداؤها المتقن لشخصية فيلومينا أكسبها ترشيحًا آخر للأوسكار، ورسّخ مكانتها كممثلة متكاملة تجمع بين الجمال والعمق الدرامى.
برز أداء لورين كامرأة عازمة على ضمان شرعية أطفالها، حيث أظهر توقيتها الكوميدى وعمقها العاطفى.
وكتبت لورين فى مذكراتها: «كان من الصعب تخيل دور أقرب إلى مشاعرى. فى كل لحظة، كنتُ أُطلب منى أن أمزج السعادة والحزن، والشجاعة واليأس، والقبح والجمال، وأضعها فى خدمة مشاعر أعمق».
فى فيلم «لا تقلق، كن سعيدًا» (1960): تجسد لورين شخصية ليدى لينديل، وهى امرأة تروى قصتها لكاتب سيرتها الذاتية، وتتضمن عملها فى بيت دعارة ولقاء شخصيات مختلفة، من بينها بول نيومان وديفيد نيفن.
سينزيا فى فيلم "المنزل العائم" (١٩٨٧): شخصية لورين، مدبرة منزل ذات شخصية غريبة الأطوار، تقع فى حب ابن أرمل، يؤدى دوره كارى جرانت على متن منزل عائم فى واشنطن العاصمة.
ياسمين فى فيلم "جاهز للارتداء" (١٩٩٤): ترشحت لورين لجائزة الأوسكار عن أدائها دور امرأة فاتنة مخادعة فى فيلم الإثارة والتجسس هذا.
مارى فى فيلم "تسعة" (٢٠٠٩): حازت لورين على ترشيح لجائزة نقابة ممثلى الشاشة عن دورها كأم فى هذا الفيلم الموسيقى المقتبس عن فيلم "٨ ونصف" للمخرج فيديريكو فيلينى.
مارى فى فيلم "بدأ الأمر فى نابولي" (١٩٦٠): حازت لورين على إشادة النقاد بفضل تجسيدها لدور امرأة تثير الشكوك عند اختفاء خاتم خطوبتها.
أكثر من معجزة" (١٩٦٧)، فيلم يدور حول أمير (عمر الشريف) يرغب الجميع بالزواج منه، لكنه لا يُبدى اهتمامًا. يجد نفسه مع امرأة ريفية (صوفيا لورين) وينجذب إليها على الفور. مع ذلك، ليس من السهل كسب ودها.
فى فيلم (الحياة القادمة (٢٠٢٠)، جسدت ناجية من الهولوكوست تتولى رعاية الأطفال بينما تعمل أمهاتهم. تتعرض للسرقة من قبل طفل (إبراهيما غاي)، فيصبح أحد الأطفال الذين ترعاهم. تُصاب بالمرض، فيُعنى بها قدر استطاعته.
يتضمن فيلم «الأمس، اليوم، والغد» ثلاث قصص لثلاث نساء مختلفات (صوفيا لورين) والرجال الثلاثة الذين يجذبونهن (مارسيلو ماسترويانى). تختلف كل قصة عن الأخرى اختلافًا كبيرًا، والقاسم المشترك بينها هو أن أحداثها تدور فى إيطاليا. القصص فريدة، وتتألق لورين فى كل منها.
فى فيلم دوار الشمس (١٩٧٠)، جسدت ببراعة امرأة إيطالية تبحث يائسة عن زوجها (مارسيلو ماسترويانى) الذى فُقد فى روسيا خلال الحرب العالمية الثانية. تجوب كل مكان بحثًا عنه، حتى أنها أحضرت صورته إلى روسيا لترى إن كان أحد قد رآه. لكن ما اكتشفته يُحطم قلبها.
كانت لورين لا تزال فى مقتبل مراهقتها، وقد قدمت ما لا يقل عن عشرة أفلام عام 1954. وكان أهمها فى تطوير مسيرتها المهنية فيلم «ذهب نابولى» من إخراج دى سيكا. وكان لقاؤها بدى سيكا - وهو ممثل مخضرم ومتميز - عاملًا حاسمًا فى منحها الثقة اللازمة لتولى أدوار البطولة. وفى حلقة «بيتزا بالدين»، التى شاركت فيها لورين فى بطولة رئيسية مع نجوم نابولى بارزين، مثل توتو وإدواردو دى فيليبو وتينا بيكا، تلعب لورين دور صانعة بيتزا مرحة تثير الشكوك عندما يختفى خاتم خطوبتها الثمين.
من الأفلام المميزة الأخرى التى قدمتها لورين عام ١٩٥٤ فيلم «من المؤسف أنها سيئة» للمخرج أليساندرو بلاسيتى. فى هذه الكوميديا الحماسية، يعود دى سيكا إلى الشاشة ليلعب دور رب عائلة من صغار اللصوص. تؤدى لورين دور ابنته، ويشاركها البطولة مارسيلو ماسترويانى فى دور الضحية الغافلة. كان هذا أول تعاون بين لورين وماسترويانى، الثنائى الذى أصبح فيما بعد الثنائى الذهبى فى السينما الإيطالية. قدّما معًا ١١ فيلمًا آخر، آخرها - فيلم «الملابس الجاهزة» (١٩٩٤) للمخرج روبرت ألتمان - بعد حوالى أربعة عقود من فيلم بلاسيتى. فتاة النهر (1954)
كان دينو دى لورينتيس، شريك كارلو بونتى فى الإنتاج، قد أطلق مسيرة سيلفانا مانغانو الفنية بفيلم «الأرز المر» (1949)، وهو فيلم هجين يجمع بين الواقعية والنوار، وكانت فكرة بونتى هى ابتكار فيلم مماثل للورين. صُوّر فيلم «فتاة النهر»، على غرار «الأرز المر»، فى دلتا نهر بو وما حولها، وأخرجه ماريو سولداتى، وشارك فى كتابته بيير باولو باسولينى وجورجيو باسانى، ومنحت لورين أول دور رئيسى مؤثر لها. توضح لورين فى مذكراتها: «لخلق شخصية تناسبنى تمامًا، شخصية ذات أكثر من مزاج، وجد كارلو وسولداتى الإلهام فى ذلك المناخ الرطب، حيث تسكنه نساء جميلات يرتدين منديلًا وسراويل قصيرة، وعصابات سفاحة يبدو أن هدفها الوحيد فى الحياة هو جعل النساء يعانين».
مع أن فيلم «الأوركيد الأسود» للمخرج مارتن ريت ليس من أشهر أفلام لورين فى هوليوود، إلا أنها نالت عنه أول جائزة تمثيلية كبرى، وهى جائزة كوبا فولبى لأفضل ممثلة فى مهرجان فينيسيا السينمائى عام ١٩٥٨، ويحكى قصة أرملة من رجال المافيا (لورين) وأرمل من رجال الأعمال (أنتونى كوين) اللذين يعارض المحيطون بهما علاقتهما المزدهرة. على الرغم من أن أسلوب الفيلم ليس هيتشكوكيًا بشكل خاص، فإنه يضم العديد من المتعاونين الدائمين مع أستاذ التشويق، من الكاتب جوزيف ستيفانو إلى مصممة الأزياء إديث هيد إلى المصور السينمائى روبرت بوركس.
بعد عقود من الشهرة العالمية، وبعد أن ابتعدت لورين عن صناعة الأفلام لفترة، تباطأ إنتاجها السينمائى منذ منتصف الثمانينيات. ومنذ أوائل الألفية الثانية، قدمت بعضًا من أفضل أدوارها تحت إشراف ابنها إدواردو بونتى عبر فيلم «الحياة القادمة» ٢٠٢٠ الذى تدور أحداثه فى بارى، حيث تلعب لورين دور عاملة جنس سابقة ناجية من الهولوكوست ترعى صبيًا سنغاليًا يتيمًا يبلغ من العمر 12 عامًا. بعد ستين عامًا من فوزها به لأول مرة، فازت لورين بجائزة ديفيد دى دوناتيلو السابعة لأفضل ممثلة عن فيلم «الحياة إلى الأمام». وقالت للجمهور فى خطاب قبولها: «ربما يكون هذا مشروعى الأخير، لا أعرف، ولكن بعد كل هذه الأفلام، ما زلت أشعر بالجوع لتناول قصص رائعة وجميلة. لا أستطيع العيش بدون السينما».
مثّلت صوفيا لورين المرأة الإيطالية بجميع تناقضاتها: قوية، حساسة، أمومية، عاشقة، مقاومة.. ولهذا أحبها الجمهور من كل الجنسيات، لأنها لم تكن شخصية «بعيدة المنال» بل امرأة حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
أقرّ النقاد بقدرة لورين على تصوير شخصيات معقدة ذات نطاق واسع من المشاعر، من الحسية إلى الهشاشة الداخلية العميقة.
فى مسيرتها الاستثنائية حصدت لورين عشرات الجوائزبجانب أوسكار أفضل ممثلة، أوسكار شرفى (1991) تقديرًا لمجمل أعمالها، الجائزة الذهبية من مهرجان كان، وسام الشرف الفرنسى وعدد لا يحصى من الجوائز الأوروبية والإيطالية.
فى عيد ميلادها الحادى والتسعين، نحتفى بصوفيا لورين، لا كفنانة عظيمة فقط، بل كرمز للتحدى، والجمال، والموهبة الحقيقية التى لا تخبو. لقد منحت السينما أكثر من أدوار خالدة؛ منحتها روحًا إنسانية عميقة، ووجهًا لا يُنسى، وصوتًا نابعًا من القلب. قال عنها المخرج فيتوريو دى سيكا: «هى لا تحتاج إلى توجيه. هى تشعر، وتُشعرك، وتجعلك تصدّق دون أن تنطق».
ومن شهاداتها: «كل ما تراه أمامك، أنا مدينة به إلى المعاناة».
«الجمال لا يصنع المرأة. القوّة، الشخصية، والروح هى من تصنعها».
«النجاح يصنعه الإيمان بالنفس، والمثابرة، والرغبة فى التعلم حتى بعد القمة».
«لا تحاولى أن تكونى شخصًا آخر. الجمال الحقيقى هو أن تكونى نفسك».