د. مصطفى الفقي يكتب: الخيال الخصب والرؤية البعيدة - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:15 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

د. مصطفى الفقي يكتب: الخيال الخصب والرؤية البعيدة

نقلا عن إندبندنت عربية
نشر في: الإثنين 26 سبتمبر 2022 - 9:22 م | آخر تحديث: الإثنين 26 سبتمبر 2022 - 9:22 م

- كل التطورات التقنية بدأت من تأملات عابرة أو خيالات بسيطة تحولت إلى اكتشافات عظمى
حفلت مواثيق حقوق الإنسان بأنماط متعددة وتنويعات ما بين سياسية وقانونية وما بين اقتصادية وإنسانية وما بين اجتماعية وثقافية، لكنها لم تتطرق بوثيقة واحدة إلى حق الخيال لأنه حق مضمون ولا اعتراض عليه ولا تعويق له فهو امتداد للذات والأفكار التى يطرحها الإنسان فى سريرته، فقد يقف الخادم أمام سيده وهو يكره اليوم الذى رآه فيه ومع ذلك يقدم له من آيات الاحترام والتوقير ما تستوجبه العلاقة، لكن خيال المرءوس يظل يمضى فى طريقه لاعنا ذلك اليوم الذى عرف فيه سيده ومتخيلا أنه لو فى مكانه وقد تبدلت الأمور وتغيرت الأحوال فسوف يكون له فى هذه الحال شأن آخر.
ولا يقف حق الخيال عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى آفاق أوسع ومساحات أرحب من التفكير والتدبير من دون التعبير، وفى ظنى أن الفارق بين من يحوزون النجاح ومن يصيبهم الإخفاق إنما يكمن فى فقر الخيال وانعدام القدرة على تصور المستقبل واستشراف أبعاده، فالعظماء فى التاريخ وقادة الرأى عبر العصور هم أولئك الذين امتلكوا الخيال الواسع الذى يسمح بالرؤية البعيدة ويؤدى إلى استشراف المستقبل، بل إن الأمم العظيمة والشعوب الناهضة سلكت هى الأخرى الطريق ذاته وهى أن يكون لديها تصور شامل وكامل للمستقبل بحيث يتجهون نحوه ويسعون إليه، فالتمسك بمجتمع الأمل هو أيضا التمسك بحلم المستقبل.
والتاريخ حافل بالأمثلة التى تؤكد ما نقول وتدعم وجهة نظرنا، لقد حلم الإسكندر الأكبر بإمبراطورية كبرى تبدأ من موقع مدينة الإسكندرية المصرية امتدادا إلى بلاد الفرس وهو الذى استبد به الحلم ودفعه الخيال فأدى به إلى القيام بتلك المغامرة الكبرى التى لم يشأ القدر له إتمامها وقام بذلك تلاميذه فى حكم البطالمة، ونابليون بونابرت أيضا تصور أن مصر هى أهم دولة فى العالم ويمكن أن تكون ركيزة الشرق لمناوأة الوجود البريطانى البحرى على الساحل الأفريقى وفى طرق التجارة المفتوحة نحو القارة الآسيوية، فكل مغامر كبير وكل صاحب رؤية التصق بها إنما فعل ذلك بحكم الخيال الذى تكون والفكر الذى تحقق، ولعلنا نرصد هنا بعض الملاحظات المتصلة بشخصيات تاريخية كبرى للتعرف إلى الرؤية التى امتلكوها والخيال الذى وقف وراء تلك الرؤية وأدى إلى تحقيقها:
أولا: إن المفكرين العظماء فى تاريخ الإنسانية بل العلماء الكبار من أصحاب الاختراعات التى حركت مسار الإنسانية إلى الأفضل انطلقوا جميعا من ومضات طارئة وبريق خافت للخيال الرشيد لأصحابها. إن سقوط تفاحة أمام العالم الكبير نيوتن أعملت خياله ودفعته إلى البحث فى قوانين الجاذبية الأرضية وفتحت آفاقا ضخمة لمعارف بغير حدود وعلوم لا تنتهى، كما أن نسبية أينشتاين جاءت هى الأخرى من خلال الملاحظة والتجريب وإعمال السوابق فى نظريات البحث العلمى حتى استطاع بحكمته وعلمه أن يضع يده على أسرار الذرة وعلومها، ولا ننسى أن إديسون عندما اخترع الكهرباء فعل ذلك من خلال التأمل والفهم العميق للعلاقة بين الطاقة والضوء وقس على ذلك معظم العلماء الأجانب والعرب أيضا، فالحسن بن الهيثم رائد البصريات قضى ردحا من عمره يبحث فى علاقات الأشعة بالضوء فأصبح اسما لا يمكن تجاهله فى كل فروع الفيزياء، ولا يقف الأمر عند هذا الحد فالطيران الحديث مدين بالخيال الجامح لعباس بن فرناس، وكل التطورات التقنية بدأت من تأملات عابرة أو خيالات بسيطة ولكنها تحولت إلى اكتشافات عظمى وحقائق كبرى أثرت فى الإنسانية على الدوام.
ثانيا: إن المهاتما غاندى بروحه القوية على رغم جسده النحيل وبخياله الواسع على رغم الحياة المتواضعة التى كان يعيشها استطاع أن يلهم أمته الهندية أفضل ما فيها وتمكن من أن يصبح الروح الخالدة بعد اغتيال جسده الضعيف فالخيال يصنع الرؤية البعيدة للأمم العظيمة، لذلك فإن الثوار العظام فى التاريخ حتى الذين اعتنقوا الفلسفة السلبية إنما اعتمدوا على خيال بعيد يقرأ المستقبل من بين السطور ويدرك دلالات الأشياء وأهميتها فى كل وقت، ويجب أن نتذكر هنا طبيعة التأمل فى الديانات الأرضية الآسيوية التى صنعت فى الخيال الشرقى الأساطير الرائعة حول كونفوشيوس وبوذا وغيرهما، فالتأمل هو صانع المعجزات والخيال هو الأب الشرعى لمعظم الإنجازات.
ثالثا: إن القارة الأفريقية مدينة فى هذه الآونة لروح عظيمة أخرى جاءت من جنوب القارة لكى تضع بصماتها الواسعة على مسار الأحداث وحركة التاريخ، وأعنى بها شخصية نيلسون مانديلا بنضالها الصامد ووحدته الرهيبة خلف القضبان لما يزيد على 27 عاما حتى أصبح رمزا للنضال الحقيقى، وخرج من سجنه من دون أن يفكر فى الانتقام ممن رأى منهم متاعب العمر ومعاناة الحياة بل خرج متسامحا صفوحا يفكر فى بلاده حتى انتهت على يديه سياسة «الأبارتايد» أو التفرقة العنصرية البغيضة التى عانتها القارة الأفريقية لأعوام طويلة.
ولماذا نذهب بعيدا، فإن زعيما مثل أنور السادات، بما له وما عليه، أقدم على خطوته السياسية غير المتوقعة بزيارة القدس وخياله يصور له أن المفاجأة ستجعل حكام إسرائيل غير قادرين على التفكير بسبب ذلك القرار الصاعق الذى كان مفاجأة للدنيا كلها، وجنح الخيال بالرئيس السادات لكى يتصور أن إسرائيل ستقول له، «أما وقد جئت إلينا وتحدثت إلى الكنيست فسوف نعيد إلى العرب كل أراضيهم المحتلة وليس سيناء فقط»، ولا شك فى أن ذلك الأمر من صنع الخيال ولا يستقيم مع التفكير الإسرائيلى فى الغالب لأن العقلية الإسرائيلية ترى الأمور من منظور مجرد قد يجنح إلى الخيال لكنه لا يعيش فيه، فالحركة الصهيونية ذاتها هى تصور بعيد لدولة يهودية مستقلة فى الشرق الأوسط.
رابعا: إن الزعيم الفرنسى طويل القامة شكلا وموضوعا الذى يعتبر منقذ فرنسا مرتين، الأولى فى الحرب العالمية الثانية والمرة الأخرى بإخراجها من الحرب الجزائرية التى ضحى فيها الجزائريون بصلابة ورباطة جأش يشهد بهما الجميع، وهو شارل ديجول العسكرى المثقف والسياسى الفيلسوف الذى يدرك أعماق الأمور ولو من بعيد، ولنتذكر هنا أيضا ونستون تشرشل والطائرات الألمانية تقصف مدينة لندن وراديو «بى بى سى» يذيع موسيقى هادئة والاستعمارى العتيق يقول لشعبه العظيم «ليس لدينا ما نقدمه إلا الدم والعرق والدموع»، إنه خيال بعيد لرؤية عميقة ترى التضحية طريقا وحيدا للخلاص.
خامسا: إن عتاة المجرمين فى التاريخ هم أيضا أصحاب خيال وإن كان شريرا، فأدولف هتلر حدد ملامح الرايخ الثالث من خلال أفكار عاصفة وتصورات مختلة تقوم على تفكير قومى عنصرى يثأر لهزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى ويتوهم أنه قادر على تغيير خريطة أوروبا وفرض سيطرة الجنس الآرى فوق ما عداه، ومأساة هذا النوع من الحكام أنهم يكونون أحاديى التصور لا يخطر ببالهم الجانب العكسى بل هم أسرى أوهام النصر وحده وأحلام الخلود دون غيرها!
إن الخيال إلهام إيجابى لدى العظماء وإلهام سلبى لدى المرضى بعقولهم وضعاف النفوس بطبيعتهم ولكن يبقى حق الخيال هو أقدس حقوق الإنسان على رغم طبيعته السلبية وآثاره الخفية ورؤيته البعيدة.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك