أيام معدودة وتنطلق اجتماعات مؤتمر «Cop28» فى دولة الإمارات العربية، وذلك فى ظروف سياسية دولية بالغة الصعوبة فى ظل أحداث أوكرانيا أوروبيا، وما ترتبط بها من توترات غربية روسية، ومنافسة وشد وجذب أمريكى ــ صينى، حول شكل النظام الدولى المعاصر والريادة فيه، مما أثر سلبا فى التعاون الضرورى فى ما بين الدول الكبرى، واستعدادها القيام بالدور الريادى المطلوب فى الساحة الدولية، لكى يتم التعامل بنجاح مع القضايا العالمية الكبرى والمتشعبة، بين اعتبارات فنية مثل البيئة والتغير المناخى، وأخرى أكثر اتساعا مثل التنمية المستدامة وفقر الموارد الطبيعية، فضلا عن العسكرة والاستقطاب الذى نشهده فى علاقات الدول الكبرى.
وينعقد المؤتمر فى الشرق الأوسط وغزة تدمر بوحشية، وأهلها بين قتلى وجرحى ومهجرين ومشردين، نتيجة لاستمرار الاحتلال الإسرائيلى عقودا طويلة والتحدى السافر وبالغ الخطورة من الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وما ارتبط بها من قتلى وجرحى بالآلاف، وتهجير أكثر من نصف سكان القطاع، مناخ غير مواتٍ على الإطلاق لتحفيز المجتمع الدولى عامة والشرق الأوسط خاصة فى الأقل للتفاهم من أجل المصلحة العامة، أو تبنى نظرة إقليمية متعددة الأطراف، لقضية عالمية عابرة الحدود وجامعة المصالح ومتنوعة الأخطار مثل التغير المناخى، حتى وإن تم ذلك بشكل غير مباشر وفى سياق أطر دولية نتيجة الأوضاع السياسية الحساسة وغياب التواصل فى المنطقة حتى قبل أحداث غزة.
مع كل هذه الصعوبات ينعقد مؤتمر «Cop28» للتعامل بشكل عاجل مع قضية التغير المناخى باعتبارها قضية مهمة وضاغطة، وصلت إلى مفترق طرق خطر وحساس، مع دخول المجتمع الدولى عصر «الغليان»، كما جاء على لسان سكرتير عام الأمم المتحدة، نتيجة ارتفاع معدلات درجات الحرارة العالمية، بما يتجه نحو زيادة تصل إلى ــ 2.6 مئوية، فى الوقت الذى يظل فيه الهدف المنشود عدم تجاوز الزيادة عن 1.5 مئوية.
وإزاء كل هذه التطورات أخذ العالم علما بما صدر عن قمة رؤساء الصين والولايات المتحدة أخيرا فى سان فرانسيسكو، فى ما يخص عزم الدولتين التعاون للحد من الانبعاثات السامة وتداعياتها الخطرة على التغيير المناخى، وعلى وجه الخصوص التعاون لتخفيض انبعاثات غاز الميثان، وهو المصدر الثانى من حيث كمية الانبعاثات الضارة، كما اتفقا على التعاون لزيادة الطاقة المتجددة ثلاثة أضعاف ما هى عليه الآن على حساب الطاقة المولدة من الوقود الحفرى.
وبغية إحراز تقدم فى مكافحة التغير المناخى يدعو المتخصصين إلى تبنى نظرة أوسع للقضية تتجاوز مسألة البيئة ذاتها، لذا يؤكد منظمو «Cop28» على خمس عناوين رئيسة لهذه الدورة من الأطراف المتعاقدة، ألا وهى التكنولوجية والابتكار والتضمين والمشاركة الجامعة، مع مراعاة المجتمعات الأكثر تضررا، وتوفير التمويل اللازم للتحول للبيئة المتجددة، وتأمين المرونة والصمود للمنظومة الغذائية أمام التحديات المرتبطة بالتغير المناخى، وقد يصدر إعلان خاص بخصوص مسألة الغذاء.
ويسعى المنظمون إلى التأكيد أن المواطنين والطبيعة يقعان فى صلب قضية مكافحة تداعيات التغير المناخى، كما ينتظر أن يتم السعى إلى إبراز دور الشباب بوجه خاص، باعتبار أن نتائج هذه الجهود ستنعكس سلبا أو إيجابيا على مصالحهم المستقبلية.
ولترجمة هذه العناوين إلى حيز النفاذ، يستهدف المؤتمر المقبل استحداث بعض الممارسات وتحقيق عدد من الأهداف، ومنها أول مراجعة عالمية شاملة لما وصل إليه المجتمع الدولى فى جهود مكافحة التغير المناخى، بما فى ذلك ما تحقق فى تنفيذ الالتزامات والأهداف الوطنية المعلنة لتخفيض نسبة الانبعاثات، وهى مصارحة ذاتية فى ظل واقع مؤلم وخطر، كما نوه إليه سكرتير عام الأمم المتحدة.
ويستهدف أيضا الإسراع فى معدلات التغيير إلى الطاقة النظيفة، بما يخفف من حدة المشكلة، وهو ما يتطلب ضمن أمور أخرى منهجية جديدة للتعامل مع تمويل إجراءات التحول إلى الطاقة النظيفة، لتوفير معدلات أعلى من الدعم المالى، بما يتناسب مع الحاجات الضرورية لتحقيق أهداف التنمية واحترام البيئة، بخاصة الدول النامية لا تتحمل مسئولية كبرى فى ما وصل إليه العالم من اختناق بيئى وسيشمل ذلك مراجعة دور المؤسسات المالية الدولية والقطاع الخاص.
وجارٍ السعى إلى إصدار إعلان عن اتفاق حول أغلب آليات إدارة صندوق الخسارة والضرر، والذى تقرر إنشاؤه للمرة الأولى خلال مؤتمر «Cop27» بشرم الشيخ العام الماضى حيث شهدت المشاورات الدولية أخيرا تقدما فى هذا المجال، كما أن هناك مؤشرات بإمكانية توفير التمويل اللازم له، وأن أوروبا عاقدة العزم على الإعلان عن دعم ملموس للصندوق خلال مؤتمر هذا العام.
أثق أن الإمارات العربية تسعى إلى إنجاح مؤتمر «Cop28»، مثلما سعت مصر قبل ذلك إلى إنجاح «Cop27» فى شرم الشيخ، وهى مصادفة طيبة أن نجد دولتين عربيتين تستضيف المؤتمر العالمى للتغيير المناخى فى سنوات متتالية، مما يعكس تنامى الاهتمام العربى بالأوضاع الدولية والاهتمام بالسعى فيها.
وإذا كان من أبرز نجاحات مصر الاتفاق على إنشاء صندوق الخسارة والضرر لمصلحة الدول النامية، سيكون من معايير تقييم نجاح «Cop28» هل نجح فى توفير تمويل لمساعدة الدول النامية، يتجاوز التريليونات من الدولارات سنويا وهى الحاجات الحالية الآن، لتمكينهم من التحول إلى الطاقة النظيفة المتجددة، ومن خلال صندوق الخسارة والضرر لتعويضهم عما مضى.
ومن المعايير الأخرى التى سيقيم المؤتمر على أساسها مدى نجاح المجتمع الدولى فى الاتفاق على إجراءات محددة وكافية للحد من الانبعاثات البيئة وارتفاع درجات الحرارة بخاصة واعتبر البعض أن مؤتمر «Cop27» لم يحقق نجاحا كافيا فى هذا السبيل، ومن التوجهات المتباينة فى هذا الخصوص، والذى برز فى حوار حول المناخ رغبة العديد من الدول المنتجة للطاقة من الوقود الأحفورى فى تحقيق الحد من الانبعاثات برفع الكفاءة التكنولوجية لأجهزتنا، ورغبة الدول الصناعية المتقدمة فى المقام الأول فى تخفيض الاعتماد واستهلاك الطاقة الأحفورية.
لكل دورة من دورات «Cop» قضاياها وإنجازاتها وإخفاقاتها، على رغم همة الدولة المضيفة وشغفها لتحقيق تقدم، والنتيجة تحكمها مواقف الدول والمجتمع الدولى بأكمله، وتحسب لمصلحة أو على حساب الجميع فى النجاح أو الإخفاق، ومطلوب عمل جماعى نشط ومبتكر، لتناول مختلف القضايا والموضوعات، وكل مؤتمر له مستجداته، وإنما الحسم الحقيقى فى الدورات السابقة، وما هو مقبل كذلك حول قضيتين رئيستين، هما زيادة التمويل بشكل هائل، وضبط معدلات انبعاثات الغازات لضبط ارتفاع درجات الحرارة، ونأمل فى أن نجد تحركا إيجابيا حول هذه القضايا المهمة فى ظل ساحة دولية مضطربة ومقلقة.