نساء من عصر التابعين (5).. أم سنان بن حيثمة: قوالة بالحق تجهر بالرأي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 2:32 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نساء من عصر التابعين (5).. أم سنان بن حيثمة: قوالة بالحق تجهر بالرأي

منال الوراقي
نشر في: السبت 30 مارس 2024 - 9:11 ص | آخر تحديث: السبت 30 مارس 2024 - 9:11 ص
تعد سير الصالحات تربية عملية للنفوس، وغَرْس للفضائل، وتدريب على التجمل بالآداب الإنسانية في ميادين الخُلُق والرضا وطاعة الله؛ ذلك لأن التربية بالاقتداء من خير الأساليب التربوية؛ لصقل الطباع، وتهذيب المشاعر، والسير قدما على طريق التقوى والاستقامة.

وفي عصر التابعين برزت قصص عشرات النساء في حياة نبي الأمة، ممن كان لهن أثر عظيم في عصرهن والعصور التي تلته، أفرد لهن المؤلف والمترجم السوري أحمد خليل جمعة، كتاب "نساء في عصر التابعين" الصادر عن دار نشر ابن كثير، ليركز على دورهن وما جرى لهن من أحداث ترتبط بالدعوة الإسلامية وبالرسول.

كان جند علي بن أبي طالب أحفل الأجناد بذوات القول الفصل، والرأي الجزل من النساء، وكان لهن مقامات ومواقف محمودة، صكت أسماع المعاندين، وروعت نفوسهم!.

ومن هؤلاء النسوة النصراء، بكارة الهلالية، وسودة بنت عمارة، وأم الخير بنت الحريش البارقية، والزرقاء بنت عدي، وعكرشة بنت الأطش، وأم سنان بنت خيثمة بن حرشة المذحجية؛ وغير من كثيرات من نظائر هن وأشباههن ممن أوتين جوامع الكلم، وجمعن أشتات الحكم، بين ازدحام الصفوف، وتحت بريق السيوف، فلم يكن يخيفهن كثرة الأبطال، ولا أسنة الرماح، أو ما شابه ذلك في ميادين القتال.

ولما تبدلت الأيام، وتغيرت الأحوال، واستقر الأمر لمعاوية كان يستدعي بعض هؤلاء النسوة الفصيحات، ويستمع إلى بلاغتهن، ويعجب لجرأتهن وصراحتهن أمامه، خصوصاً عندما يُغلظن له بالقول - أحياناً - فكان معاوية أكبر همة، وأسمى نفساً من أن يقدم على إبداء أي منهن أو قتلها مهما أغلظت له بالقول، أو عرضتُ به، بل كان يبادرهن بالصلة، ومن ثم يرجعهن من حيث قد من وقد نالتهن جائزته.

ومن بين هؤلاء النسوة الخالدات: أم سنان بنت خيثمة التي حفظت ذاكرة معاوية قطعة من شعرها يوم صفين، كما حفظت ذاكرة رجل شامي قطعة أخرى من شعرها، أما ذاكرة التاريخ فقد وعت كل ما قاله هؤلاء جميعاً.

مِنَ المدينة إلى الشام:
بعد أن انتهت موقعة صفين، عادت أم سنان بنت خيثمة إلى المدينة المنورة، وحطت رحالها هنالك، واستقرت فيها، وعندما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة ، ولي مروان بن الحكم المدينة المنورة، مرتين من سنة (٤٢ - ٤٩ هـ)، ثم تولاها مرة أخرى سنة (٥٦ و٥٧ هـ).

وكان المروان بن الحكم مع أم سنان قصة؛ أسمعته فيها من غليظ القول وخشن الكلام شيئاً غير يسير، ثم توجهت إلى دمشق تشكوه إلى أمير المؤمنين معاوية لأنه حبس حفيدها، فألفت لدى معاوية أذناً صاغية، وقضى حاجتها، ولكن محاورة جرت بينهما كشفت لنا عن فصاحتها وبلاغتها وشاعريتها.

فقد حبس مروان بن الحكم - وهو والي المدينة - غلاماً من بني ليث في جناية جناها بالمدينة المنورة، فأتته جدة الغلام أم أبيه، وهي أم سنان بنت خيثمة بن حرشة المذحجية، فكلمته في شأن الغلام، وطلبت أن يصفح عنه أو يخفف عنه الحبس ولكن مراون بن الحكم أغلظ لها في القول وانتهرها وزجرها، فأغلظت له هي الأخرى، ثم فكرت في الذهاب إلى مقر الخلافة فهناك معاوية، وهو الذي يستطيع أن يرفع عنها الظلم فتجهزت وشدت رحالها، وتوجهت نحو دمشق ونفسها مملوءة غيظاً على ابن الحكم الذي لم يعرف مكانتها وقدرها، ومن ثم كبدها عناء السفر ومشقته.

أم سنان في مجلس مُعَاوِيَةَ: لما قدمت أم سنان دمشق، استأذنت على معاوية فأذن لها، فانتسبت له فعرفها، وأمرها بالجلوس، فلما جلست قال لها: مرحباً يا ابنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تبغضين قومي، وتحصلين على عدوي؟.

قالت: يا أمير المؤمنين، إن لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة، وأعلاماً ظاهرة، وأحلاماً وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا يتعقبون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع سنن آبائه لأنت.

قال معاوية: صدقت يا أم سنان، نحن كذلك، ثم سادت فترة صمت، قطعها معاوية بسؤال لأم سنان يذكرها فيها بشعرها وتحريضها عليه، فقال لها كيف قولك: عزب الرقاد فمقلتي ما ترقد.. والليل يُصدر بالهموم ويورد..
يا آل مذحج لا مقام فشمروا إن العدو لآل أحمد يقصد.. هذا على كالهلال تحفه.. وسط السماء من الكواكب أسعد.. ما زال مد شهد الحروب مظفراً والنصر فوق لوائه ما يفقد.

وكانت أم سنان - رحمها الله - تصغي لما ينشده معاوية من شعرها، ولما انتهى قالت له: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، وإنا لنطمع أن تكون لنا خلفاً بعده، فمثلك جدير بذلك.

وقبل أن يتكلم معاوية بكلمة، قال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين، وأنا أحفظ من شعرها خلاف ما تقوله لك الآن، فهي القائلة: إما ملكت أبا الحسين فلم تزل.. بالحق تعرف هادياً مهديا.. فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت.. فوق الغصون حمامة قمريا.. فاليوم لا خلف يؤمل بعده.. هيهات نمدح بعده إنسيا.

عندئذ قالت أم سنان وعلائم الحزم والصدق ترتسم على وجهها وهي تعرض بجلسائه: يا أمير المؤمنين، لسان نطق، وقول صدق، ولكن تحقق فيك ما ظننا فحظك الأوفر، والله ما ورئك الشناءة - البعض في قلوب المسلمين إلا هؤلاء - وأشارت إلى بعض جلسائه - فادحض مقالتهم، وأبعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك ازددت من الله عز وجل قرباً، ومن المسلمين حباً وتعجب معاوية مما تقول، فقطع عليها مقالتها قائلاً: وإنك لتقولين ذلك يا أم سينان؟ ! .

قالت: سبحان الله يا أمير المؤمنين، والله ما مثلك مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا، كان والله على أحب إلينا منك إذ كان حياً، وأنت أحب إلينا من غيرك إذ أنت باقي.

فسألها معاوية: وممن أنا أحب إليكم ما دمت باقياً؟.
فقالت: يا أمير المؤمنين، أنت أحب إلينا من مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص
قال: وبم اسحققت بذلك عليهما؟.
قالت : بحسن حلمك، وكرم عفوك.
فقال معاوية: وإنهما ليطمعان في ذلك.
قالت: نعم، فهما والله لك من الرأي، على ما كنت عليه لعثمان بن عفان.
قال: والله لقد قاربت..
وانتهى الحوار هنا، ولم يعد معاوية يسألها عن أي شيء.

إِكْرَامُهَا وَقَضَاءُ حَاجَتِهَا:
ساد صمت في مجلس معاوية، وسكنت أم سنان عن الكلام بعد أن وضعته في مواضعه، ووضعت النقاط على الحروف، وكان معاوية راضياً كل الرضى عما تقول أم سنان، ولكن وراء وفادتها عليه أمر ما ولم يطلع عليه بعد، فتوجه إليها قائلاً: ما حاجتك الآن يا أم سنان؟.

قالت: يا أمير المؤمنين، إن واليك مروان بن الحكم أقتم بالمدينة لا يريد البراح منها، فلا يحكم بعدل، ولا يقضي بسنةٍ، وهو يتتبع عثرات المسلمين ويكشف عورات المؤمنين، وقد حبس ابن ابني فأتيته، فقال كيت وكيت، فلم أسكت له وألقمته أحسن من الحجر، وألعقته أمر من الصاب.

ولكنني يا أمير المؤمنين رجعت إلى نفسي باللائمة، وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه، فأتيتك لتكون في أمري ناظراً، وعليه معيناً وناصراً.

قال معاوية: صدقت يا هذه، فلا أسألك عن ذنب حفيدك، ولا أسألك القيام بحجته، والدفاع عنه، ثم قال لكتابه: اكتبوا لأم سنان بإطلاقه وإخراجه من سجنه.

فشكرت أم سنان معاوية على معروفه، وقالت له: يا أمير المؤمنين، وأنى لي بالرجعة إلى المدينة المنورة، وقد نفذ زادي، وكلت - ضعفت - راحلتي!.

عندئذ أمر لها معاوية براحلة موطأة، ووصلها بخمسة آلاف درهم، وردها إلى المدينة المنورة وقد قضيت حاجتها، وكان لسانها يلهج بالدعاء المعاوية.
أقرأ أيضاً:


قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك