الإسلام كما أدين به
 48- خير أمة هـ _توافق لا تنافر - جمال قطب - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 1:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإسلام كما أدين به
 48- خير أمة هـ _توافق لا تنافر

نشر فى : الخميس 2 فبراير 2017 - 9:00 ص | آخر تحديث : الخميس 2 فبراير 2017 - 9:19 م

ــ1ــ
قارئ تاريخ زمن التنزيل وزمن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما لا يصعب عليه أن يتبين مجتمعا ذا طراز خاص من السلوكيات والعلاقات، مجتمعا اتسع لليهود فضلا عن مشركى المدينة فضلا عن اتفاقيات دفاع مشترك مع الغساسنة (نصارى تبوك)، وقد اتسع لهم جميعا بصوامعهم وكنائسهم. وهنا نذكر أنفسنا أن تكسير الأصنام وإزالتها لم يمارس إلا فى نطاق الحرم المكى (داخل الحرم ــ فى دائرة حول الكعبة لا يزيد نصف قطرها عن 13 كم)، فهذا الحرم هو حرم نبوة إبراهيم الجد الأعلى لجميع الرسالات (اليهودية/ المسيحية/ المحمدية) والتى تكون تاريخ الإسلام، فكان حتما تطهير ذلك الحرم من الوثنية التى بعث الله إبراهيم لاقتلاعها من الأرض.. وفى غير ذلك لم يكن أى مساس بمخصصات تدين بقية الناس، والقاعدة القرآنية الواضحة تقول: ((وَلَا تَسُبُوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَهِ فَيَسُبُوا اللَهَ عَدْوا بِغَيْرِ عِلْمٍ..)). وأصول الفقه تؤكد أن ما نهى عن قليله فإن كثيره أشد نهيا، ومادام القرآن قد نهى عن سب رموز العبادات المخالفة له فلا شك أنه ينهى عن التعرض لها أو تكسيرها.


ــ2ــ
وإذا كان التعرض للمخالف فى العقيدة ممنوعا ومنهيا عنه، فما بالك بالمسلم الموحد بالله، والذى يمارس شعائر الإسلام غير أنه يخالف غيره فى بعض التوجهات وبعض التأويلات؟ هنا يجد الراغب فى ممارسة الدعوة تفرغا أو تطوعا نفسه بين موقفين لابد وأن يختار أحدهما، فهو بين مقاطعة المخالف والتنديد به وربما يتعرض له بما يزعجه. وبين اختيار آخر وهو أن يبقى التواصل معه مفتوحا مستمرا مع دوام التفكير فيما ينتقده على الآخر والتفكير فيما يعتقده هو... فمن الممكن أن يكون الشخص قد تأثر برأى غير رشيد، أو تكون لديه فهم خاطئ نتاج تسرع أو عناد أو حب فى الزعامة والقيادة.. وهنا فالمسلم العاقل عليه أن يحسن الاختيار ويعلم أن الدين قد جعل الصبر والمصابرة والمثابرة من أنجح آليات الجهاد والتحمل. وهكذا كان الجيل المعاصر للنبوة والجيل الذى بعده حتى منتصف عهد عثمان بن عفان، وذلك الزمن هو زمن «التدين الأصح» بين ما توالى عليه التاريخ من «نماذج تدين مجروح» تخالف القرآن وتجافى السنة النبوية وتضاد الفطرة وتصادم العقل.


ــ3ــ
وهكذا كان ذلك الزمن «زمن التدين الأصح» زمنا ذا خصائص نفتقدها الآن: فقد كانت نسبة الدعاة والمتحدثين فى الدين إلى نسبة أبناء الأمة قليلة جدا حيث استجابوا لتحذيرات الرسول صلى الله عليه وسلم وأبرزها قوله: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَ مُتَعَمِدا فَلْيَتَبَوَأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَارِ» وقوله: «نَضرَ الله امْرَأ سَمِعَ مِنا شَيْئا فَبَلغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُب مُبَلغِ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»، وفى هذه الجملة الأخيرة يحذر يحذرهم من التورط فى الحديث «دون وعى» (دون دراية بغاية الشريعة ووجهتها ومقاصدها)، بل بلغ التركيز النبوى على ضرورة وأهمية عدم التوسع العشوائى فى ممارسة الدعوة أنه مزق أوراقا كان البعض قد دون فيها بعض الحديث النبوى، فسارع الرسول بتمزيق تلك الأوراق قائلا: «أَكِتَابٌ مَعَ كِتَابِ اللَهِ؟!» وهنا تنبه الجيل العظيم بأن للدعوة خصوصيات وليست كلأ مباحا حتى ولو تمسح الراغب فى نقل الحديث النبوى.. ولتفسير هذا الموقف مقال آخر.


ــ4ــ
فإذا رأيت أحياء المدن والقرى فى ذلك العصر رأيت رشدا تعبديا نحن أحوج الناس إليه. فلم يجرؤ أهل ذلك الزمن على مزاحمة المساجد بعضها لبعض حتى تتداخل أصوات المؤذنين، وبلغ فقه الناس مبلغا حضاريا وشرعيا.. فلم يسارع أحد ولم تأذن سلطة ما بإنشاء مسجد فى دائرة يسمع فيها آذان مسجد آخر.. لماذا؟ لأن تجاور المساجد يمزق أهل الحى الواحد، كما أن كثرة المنابر تعنى تكاثر الأقوال ويخشى من تعدد الأقوال غير المتخصصة فى تمزيق وحدة الناس وتعكير صفوهم والتزيد على دين الله بما يخلق نزاعا وجدالا الأمة فى غنى عنه. وإذا أردت أن تتأكد من صحة ما أدعيه الآن فارجع إلى الأخبار الصحيحة عن ذلك الزمن العظيم وابحث عن عدد المساجد وعن عدد الدعاة بل وعن عدد الأوراق المدون فيها العلم ورغم الندرة التى أشير إليها إلا أنه كان زمن التدين الأصح.

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات