حدود وأسوار - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 11:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حدود وأسوار

نشر فى : الثلاثاء 2 مارس 2010 - 9:58 م | آخر تحديث : الثلاثاء 2 مارس 2010 - 9:58 م

 اتفقت جماعات البشر على أن يكون لكل منها منطقة تفصلها عن غيرها، حدود تسعى إلى تأمينها وتحرص على عدم المساس بها، وتفرض إجراءات على كل من يتخطاها تأكيدا لسيادتها عليها. قد تتخذ تلك الإجراءات شكل تأشيرات على وثائق معتمدة أو رسوم تتقاضاها على مرور المركبات أو على دخول البضائع إلى أراضيها. وعلى حكومات الدول أن تؤمنها بالكيفية التى تراها، بدءا من حرس الحدود إلى شبكات الدفاع ضد أى غاز معتد.

وقديما كانت الأسوار المحصنة بالقلاع هى وسيلة توفير الأمان، ويقال إنه قد اكتشف مؤخرا جزء من سور الصين العظيم يضيف إلى معالمها الأثرية. وفى نصف القرن الماضى عندما تمرد أهل برلين على حرمانهم من حقهم فى التنقل، وعجزت الحدود التقليدية عن منعهم، أحيطوا بجدار عزل أحياء مدينة واحدة عن بعضها البعض. وقبل 21 عاما استردوا حقهم فى الحياة الطليقة، فهدموا الجدار وقوضوا معه حقبة من تاريخ البشرية تجمعت فيها من المآسى ما فاق ما عاناه البشر منذ بدء الخليقة، وإن أذن هذا ببدء معاناة من نوع آخر أصابت آخرين، أغلبهم يعيشون فيما يطلق عليه الشرق الأوسط .. يسمونه أحيانا الكبير وأخرى الجديد، ولكنهم يحرصون دوما على جعله الذليل.

من أوجه المذلة أن الكيان الوحيد الذى يحظى بروابط إستراتيجية مع دول توصف بالكبرى، هو الوحيد الذى لا تعرف له حدود، ومن ثم فمن حقه أن يمتلك ترسانة نووية تساندها شبكات صاروخية وأسلحة متطورة يغدقها عليه حلفاؤه الإستراتيجيون، ويمنح أسرار صنع بعضها ليقيم ببيعها علاقات وثيقة مع دول لها ثقل إقليمى كتركيا، أو ثقل عالمى كالصين.

وتقديرا لدوره فى إخراس الألسنة التى تطالب بحقوق يزاول اغتصابها بهمة لا تعرف الكلل، يشاد بكونه نموذجا للديمقراطية الساعية لتحقيق الأمن لأبنائها وفرض السلام بقوة السلاح على إقليم إما تستباح أراضى دوله بعدوان تحالفات دولية تفتعل لها شرعية وهمية، أو يفرض عليها شراء الأسلحة بأموال تغذى اقتصادات باتت على شفا الانهيار شريطة ألا يستخدمونها ضد من يهددون أمنه، أو تدفع إلى تقاتل طوائف تشعل نار الفتنة بينها لتنهى سلاما ربط بينها أمدا طويلا. ولا يكتفى الكيان الدخيل بذلك، بل يمضى يقتطع من أراضى من شاء حظهم العاثر أن يكونوا أصحاب الحق الأصيل فى الوطن، ما يبنى عليه جدرانا ومستوطنات تقطع أوصال الحيز المتبقى لهم، ويتباهى بأن ذلك هو الذى حقق لرعاياه الأمن ووفر مأوى لما يدعوه نموا طبيعيا..

أما الحلفاء الكبار فيعيدون تعريف الحدود وفق مفهوم يقال إنه استراتيجى. فالولايات المتحدة لها حدود بين المحيط الأطلسى شرقا والمحيط الهادى غربا. وما بين المحيطين يمثل نطاق أمنها الداخلى إذا تحركنا من الأطلسى غربا نحو الهادى، ويمثل أمنها الخارجى إذا تحركنا منه شرقا ليصل الهادى مجتازا باقى العالم.

وهكذا تنتشر أساطيلها وقواعدها حيثما ادعت وجود مصالح لها يتهددها خطر . ومؤخرا ادلهمت الأمور على نحو جعلها لا تكتفى بجيوشها وأساطيلها وسلاحها الجوى التى ترفع أعلامها تارة وأعلام حلف الناتو أخرى، فإذا بها تفرض على دول خليجية بدأت تنتبه إلى ضرورة النهوض باقتصاداتها الهشة، ما يسمى دروع صواريخ مدعية حمايتها من تهديد لا يندرج فيه الكيان الصهيونى لأنه هو المركز الأساسى للدروع. الغريب أن دول الخليج تحرص على رفع راياتها على حدودها، ولا تتردد فى الدخول فى نزاع سافر حول مواقع حدودها فيما بينها، دون اعتبار لشعار السوق الخليجية المشتركة التى تفضى فى النهاية لوحدة فات على موعدها عقود طويلة. وفى جنوب الجزيرة تعبث أياد خارجية لإعادة حدود بين شطرى اليمن، واختلاق أخرى لكى يتأكد بقاء اليمن ــ مهد الحضارات العربية القديمة ــ مجزءا ضمن دول العالم الأقل نموا. ونفس الأمر يتعرض له السودان، بعد أن استشرى فى الصومال فمزقها بواسطة مرتزقة، وأحال أهلها إلى قراصنة ومرتزقة. وفى المغرب العربى الذى كان يحلم فى الخمسينيات بالمغرب الكبير، يُفتعل صراع حول إقليم لم يتخل عنه الاستعمار إلا مؤخرا ليجمد اتحادا مغاربيا وعد عند نشأته فى 1989 بتكامل فعال، ليصبح أقل الأقاليم العربية تبادلا اقتصاديا، بينما يتسابق أعضاؤه فى فتح حدودهم لشراكة أوروبية.

وتسعى جامعة الدول العربية إلى إقامة اتحاد جمركى عربى يرجى أن تنساب فيه البضائع العربية والأجنبية بلا قيود، لتكتشف أن منطقة التجارة الحرة العربية التى قيل إنها اكتملت فى 2005 تعانى من أن الحرية تقتصر على سلع ليس من بينها ما تنتجه الدول الأعضاء. أما البشر فعليهم إذا انتقلوا أن يبقوا رهناء الكفيل فى الخليج، أو يدفعوا رسوما إذا سمح لهم بتأشيرة. وتبقى الحدود العربية مفتوحة أمام منتجات الدول المتحضرة وأبنائها، ليرتكبوا فيها من الجرائم ما يخطط له أعداء العرب.

وأتدارك بالقول إن الكيان الصهيونى دفع ثمن خروج مصر من الصراع المسلح بتركها تقف على حدودها الدولية، بعد أن غامر السادات بكل شىء من أجل استعادتها، وأذعن لاستعادتها، وطابا التى خاضت من أجل استردادها معركة قانونية مجيدة. إما أن تكون لمصر قوات تحمى حدودها من أكثر الجهات المهددة لأمنها منذ القدم تحددها بإرادتها، فهذا أمر تأباه الولايات المتحدة ذات الـ99% من الأوراق. فإذا استجد ما يقلق، كان الحل فى الأسوار، فتبنى مصر جدارا مقابل غزة، وتتولى الصديقة إسرائيل إكمال اللعبة بجدار من جانبها. أما أراضى مصر ومواردها الواقعة ضمن تلك الحدود فمستباحة لمن يدفع الثمن فى ظل دولة ترفع راية بيع الأصول واستجداء رأس المال الأجنبى، والتباكى على تراجعه مؤخرا وهزاله مقارنة بدول ناهضة كماليزيا.

الغريب أن أصحاب الفتاوى الرنانة والأقلام الطنانة هبوا يستنكرون بناء الجدار الفولاذى ، بدعوى أنه يحرم غزة من أنفاق تمكنها من الصمود فى وجه حصار لم يحركوا ساكنا لإنهائه.

عليهم أولا أن يستجوبوا حكام غزة حول: (1) من أين لهم بالأموال التى تنفق على أنفاق يكلف الواحد منها نصف مليون دولار على الأقل؟ (2) من أين لهم بالأموال التى يشترون بها بضائع يراد توفيرها لمواطنيهم، ولمن تعود أرباح هذه العملية؟ (3) من أين يحصلون على تلك البضائع، هل من الأسواق المصرية ولو كانت مدعومة، لتكون تهريبا يحاسب عليه القانون، أم من خارج مصر ليكون التهريب إلى مصر ثم منها، يشترك فيه مصريون بالضرورة، فتحق مساءلتهم؟ (4) وإذا كان هذا الأسلوب يحمّل البضائع المنقولة بتكاليف مرتفعة، فمن أين للمستهلك الغزاوى بدخل يشتريها به؟ (5) وإذا قيل إن السلاح يهرب إلى غزة عن هذا الطريق، فما هو مصدره، وما مدى ما يمثله من اختراق لأمن الدولة؟ (6) ثم ما هى استخدامات ذلك السلاح ولمن يوجه؟ (7) وماذا إذا فكت إسرائيل الحصار؟ هل يعنى هذا حل القضية التى يقال إن الصمود أساس لمقاومة العدو فيها ؟ وهل تهدأ النفوس باستمرار الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لكون رافعى شعار المقاومة سقط عنهم الحصار؟

لقد نجحت إسرائيل بمحرقة غزة فى تحويل الأمر من تعضيد دولى لاسترداد الحقوق إلى مجرد المساعدة فى إبقاء الناجين من المحرقة على قيد الحياة، ونجح الفلسطينيون بشعار المقاومة فى تبرير بقاء إسرائيل كيانا بلا حدود. على جالاواى وأمثاله ممن تستهويهم المعارك الكيشوتية، أن يجاهدوا فى دولهم ليدفعوها إلى إعادة الحقوق لأصحابها. وعلى العرب والمجتمع الدولى استدعاء إسرائيل فورا إلى اتفاق يتم به فتح المعابر، بما فيها معبر رفح، وعلى الفلسطينيين أن يتكتلوا جميعا فى جبهة تحرير، لا فرقا تتمسك بسلطات تتسيد على جماعات تتطاحن فيما بينها، وأن يحملوا العرب على نبذ مبادرات الاستسلام، وإعلان مبادرة وحيدة : إقامة فلسطين دولة حرة مستقلة عاصمتها القدس على كامل أراضيها المخلّصة من نجس المستوطنات، ونزع سلاح إسرائيل بضمان دولى لسلام المنطقة، بما فيها إيران.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات