الرؤية القرآنية للكون وسكانه 2 ــ رؤية «السماوات والأرض والجبال» - جمال قطب - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 9:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرؤية القرآنية للكون وسكانه 2 ــ رؤية «السماوات والأرض والجبال»

نشر فى : الخميس 2 مارس 2017 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 2 مارس 2017 - 9:55 م

زعمنا فى المقال السابق أن هناك رؤى كونية قديمة وأقدم ما كشف عنه القرآن من تلك الرؤى: رؤية السماوات والأرض والجبال (رؤيتها الكونية لذاتها وإدراكها لما فوقها وإدراك وظيفتها).. نعم فقد صرح القرآن بقوله تعالى: ((إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوما جَهُولا))، وتأمل الآىِ يبين لنا أن الله جل جلاله قد خلق هذه المخلوقات وأودع فى كل منها بعض خزائن نعمه، وبعضًا من قوانين سنته وحكمته، ثم عرض سبحانه على تلك المخلوقات منحة أخرى فوق ما تتمتع به، إذ عرض عليهم جميعا نعمة «حرية الإرادة» أى أن يكون لكل منها حق القبول والرفض، أو حق طاعة الأمر أو معصيته بمعنى أن يكون للأرض مثلا حرية إذا زرعها الإنسان فلها أن تخرج زرعها ولها أن تعترض وتؤجل العطاء، ولها أن ترفض إنضاج الزرع وإخراجه إلخ. وكذلك يكون للسماء حق توجيه الضوء والحرارة والرياح إلى المكان المحدد لها أو أن تبدله زمانا ومكانا!!! وكذلك الجبال لها أن تؤدى وظيفتها فى حفظ الأرض وثباتها ((...وَالْجِبَالَ أَوْتَادا)) أو أن يكون لها حق الكسل والتأجيل والخمول!!!
ــ1ــ
هنا أدركت السماوات والأرض والجبال هول «المسئولية» وخطورة الاجتراء على تحملها.. كما أدركت حقيقة ذاتها إدراكا صحيحا.. فهى مخلوقة لله يجب أن تداوم على طاعته وأن تداوم على أداء وظائفها التى خلقت لها بغض النظر عن أى أسباب، فكونها مخلوقة يفرض عليها واجب الطاعة، وهى تخشى ــ إذا منحت حرية الإرادة ــ أن تدخل إرادتها فتطيع من تحب من البشر فتنبسط له وتخرج له ثمارها، وأن تمنع ثمارها عمن لا تحب... والسماوات والأرض والجبال لا تريد أن تغتر بحجمها ولا بكثرة ما تحويه ولا بعجائب وظائفها، ولا بأهمية دورها سواء لغيرها أو لذاتها... كل ذلك لا يبرر لها حق التخلف عن أداء وظيفتها، لذلك استدرك كل منها حقيقة ذاته ومدى قدرته على الجمع بين طاعة الخالق من ناحية وإنجاز وظيفته فى اتجاه الآخرين ــ بغض النظر عن أحوالهم ــ من ناحية أخرى، ولذلك سارعت تطلب عفو الله عنها بإعفائها من تحمل هذه المسئولية.. مسئولية الالتزام لأمر الخالق مع حقها فى العمل أو الاقتناع فى مواجهة الظروف الأخرى، وسجل القرآن الكريم هذا الاستعفاء وإصرار الكائنات الثلاث بما فيها على عدم قبول «حرية الإرادة» حرصا على عدم الوقوع فى المعصية فقرر القرآن ((إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوما جَهُولا)).
ــ2ــ
أليس هذا الاعتذار من السماوات والأرض والجبال ــ عن قبول حرية إرادتها ــ يمثل رؤية كونية كلية رشيدة؟ نعم فتلك الكائنات الثلاث الكبرى تعلن إدراكها لحق الخالق سبحانه تمام الإدراك وأبسط ما يجب عليها من طاعة هو دوام واستمرار إنجاز وظائفها تجاه جميع المخلوقات الأخرى بغض النظر عن رأيها فى تلك الكائنات.. فهى تدرك مبدأ أساسيا هو وجوب طاعة الخالق إقرارا بحقه وتسليما لحكمته دون مناقشة.
ــ3ــ
كما أن تلك الكائنات الثلاث أدركت ذاتها أنها مخلوقة لإنجاز وظائف مهمة تؤثر على حياة غيرها.. فإذا تمتعت هى بـ«حرية الإرادة» واتخذت موقفا سلبيا مع ساكن من السكان لم يرق لها لونه أو جنسه أو لغته أو سلوكه إلخ فتوقفت عن إمداده لما أودع فيها.. فماذا تفعل إذا؟ ماذا تفعل إذا لم تؤد وظيفتها كاملة فى الزمان والمكان المحددين؟ فإذا وقعت فى هذا المنزلق فقد جنت على نفسها جنايتين أولهما معصية الخالق وهو سبحانه غير مستحق للمعصية، والأخرى أنها تعطلت عن بعض مهامها فأصبحت غير شاكرة ولا تستحق الحياة والاستمرار. لذلك أجمع هؤلاء جميعا على الاعتصام بالمضمون دون توريط نفسها فى «حرية الإرادة» حتى لا تقع فى معصية أو تتخلى عن الشكر.
ــ4ــ
ترى لو أن الأرض كان لها حرية الإرادة... فهل كانت تخرج الزرع لهؤلاء الجبارين؟ أو هل كانت تحمل عروش الظالمين؟ أو هل كانت تقبل أن يسكنها العابثون.. ولو كان للأرض حرية الإرادة لتوقفت عن خدمة شرائح من المخلوقات.. وبذلك تكون قد خرجت من قانون الطاعة الذى يجب أن يكون سائدا بينها وبين خالقها فهى مطيعة للخالق طاعة مطلقة، وفورية وظائفها إنجازا دقيقا، وخادمة لكل من فهم مفاتيح التعامل معها.

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات