«الوعد» لدورنمات.. تجاوز المنطق بالخيال! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 9:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الوعد» لدورنمات.. تجاوز المنطق بالخيال!

نشر فى : الجمعة 2 مارس 2018 - 10:15 م | آخر تحديث : الجمعة 2 مارس 2018 - 10:15 م

فى ليلة واحدة فقط، التهمت سطور هذه الرواية المذهلة؛ المختلفة، المخيفة، للكاتب السويسرى الأشهر فريدريش دورنمات، وترجمة القدير سمير جريس، (صدرت عن دار الكرمة فى 240 صفحة من القطع المتوسطة).

هذه المرة الأولى التى أقرأ فيها رواية لدورنمات؛ «دورنمات» الذى أعرفه هو المسرحى العملاق صاحب الشهرة الوافرة فى الثقافة المصرية المعاصرة؛ خاصة فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى؛ وواحد ممن حازوا نصيب الأسد فى الترجمة والتمثيل على خشبة المسرح المصرى؛ تأثيره أيضا من الضخامة والعمق ما لا يختلف على ذلك اثنان.

كل هذا «كوم» وتلك الرواية «الرهيبة» «كوم» آخر، فهناك نوعية من الأعمال بفضل براعة كتابها ورهافة ما تطرحه من أسئلة إنسانية وأخلاقية تبدو كالكائن الحى؛ تنطق وتصرخ وتؤلم وتؤثر فى قارئها لدرجة الرعب! لا أنكر أننى ظللت مشدودًا طيلة أكثر من ثلاث ساعات متصلة لصفحات الرواية أترقب أحداثها، أتابع حواراتها الذكية العميقة المزعجة؛ أحاول التغلب على جرعات الألم المضاعفة إزاء موضوعها المأساوى؛ تُقتل فتاة صغيرة فى بلدة فى سويسرا، فيعد رجل الشرطة (مفتش التحقيق) والدة الضحية بأنه سوف يعثر على الجانى.

نواجه ــ نحن القراء ــ جريمة قتل بشعة تروح ضحيتها طفلة فى الرابعة عشرة؛ يظن للوهلة الأولى أنه تم الاعتداء عليها جنسيًا (فى الغالب قد يستنتج فى نهاية الرواية أن دافع القتل هو التحرش الجنسى بالطفلة).. وبعد أن يقرر مفتش الشرطة أن الرجل الخطأ قد اعتقل، ينصب فخًا للقاتل الحقيقى، إلا أن المنعطفات القاسية فى أحداث الرواية تجعل المخبر يدفع ثمن وعده غاليا.

كان مثيرا جدا أن ترى رجل شرطة ومحققا يكاد يذهب إلى الجنون التام بسبب هذا «الوعد» الذى قطعه على نفسه؛ وترتب عليه طرح سؤال بسيط؛ كان السؤال: ماذا لو كان قاتل الطفلة «جريتلى موزر» ما زال حيا وحرا؟ ألن يكون هناك أطفال آخرون معرضين للخطر؟ كم طفل وطفلة يظل تحت التهديد ومعرضا لخطر القتل ما ظل هذا القاتل المختل حرا طليقا؟

يتصدى رجل الشرطة للإجابة من دون لحظة تردد واحدة: «إذا كان احتمال الخطر واردا، فواجب الشرطة أن تحمى الأطفال، وأن تمنع وقوع جريمة جديدة»، هذه هى مهمة الشرطة، حماية الناس من الخطر، قبل أى شىء آخر.

سيؤمن رئيسه فى العمل؛ لواء الشرطة المخضرم، على كلامه؛ بل سيزيده تفصيلا فى حوار ممتع يبلور فيه فلسفة الأمن والشرطة والتعامل مع المواطنين؛ سيقول له: «علينا أن نؤدى واجبنا، ولكن واجبنا الأول هو عدم تجاوز حدودنا، وإلا سننشئ دولة بوليسية»!

فى المقابل، لن يتركنا «دورنمات» على حالة البراءة الظاهرة إزاء هذه «اليقينيات» المثالية من دون أن يزعزعها بمعاول أسئلته الثقيلة يهوى بها بعنف على رءوس كل المثاليات والأفكار المحفوظة المعلقة فوق الجدران والمحفورة فى الأذهان؛ سيقول اللواء قائد الشرطة السابق:

«منذ أن فشل السياسيون هذا الفشل الذريع.. والناس يأملون فى أن تنجح الشرطة على الأقل فى نشر النظام فى العالم، غير أن هناك، للأسف، احتيالا من نوع آخر تماما يمارس فى هذه القصص البوليسية، ولا أعنى بهذا أن مجرميكم ينالون دوما عقابهم، فهذه الأسطورة الجميلة ضرورية بالتأكيد من الناحية الأخلاقية، إنها من الأكاذيب التى تقوم عليها دعائم الدولة، مثل القول الورع الشائع: الجريمة لا تفيد.. منذ قديم الأزل وأنتم ـ أيها الكتاب ـ تضحون بالحقيقة من أجل القواعد الدرامية، حان الوقت كى ترسلوا هذه القواعد إلى الجحيم!»
فيما يقول الطبيب النفسى المعالج مخاطبا المفتش (متى): «اختيارك للجنون طريقا قد يكون شجاعة، أعترف لك بهذا، والمواقف المتطرفة تثير إعجاب الناس فى أيامنا هذه، ولكن إذا لم يؤد هذا الطريق إلى الهدف، فلن يتبقى لك ــ على ما أخشى ــ سوى الجنون».

أهم درس يمكن استخلاصه من قراءة هذه الرواية هو «تجاوز المنطق بالخيال»؛ فالإنسان عليه أن يتوقع ما لا يمكن توقعه؛ ويمكن لإنسان أن يدفع عمره بالكامل ثمنا لبحثه عن الحقيقة والوفاء بالوعد، كما أن الإنسان كإنسان هو أغلى وأهم قيمة فى هذه الحياة، وعلى هذه الأرض.

لقد أوفى دورنمات بوعده الفنى حينما كتب يوما أن على الأديب «أن يكتب روايات بوليسية، وأن يصنع الفن حيثما لا يتوقعه أحد»، نعم، لقد أوفى دورنمات بهذا «الوعد» مرارا، لا سيما فى هذه الرواية التى تعتبر درة فريدة بين أعماله النثرية.. إنها رواية لا تنسى..