فى تلك العشية القاهرية الوديعة كان توفيق صالح هو الذى تبرع بإيصالنا فى سيارته إلى المنطقتين المتجاورتين، العجوزة بالنسبة إلى نجم سهرتنا نجيب محفوظ حيث يقيم، وأول الزمالك من ناحية العجوزة أى فندق ماريوت بالنسبة إلى. فلأن يوسف القعيد كان على عجلة من أمره للمغادرة قبل أن تنتهى «عزومة العشاء» التى كنا فيها فى دارة رجاء النقاش، سارع توفيق صالح إلى التعبير عن رغبته فى أن يوصلنا بنفسه بعد حين ولكن دون أن يدرك ما وقع فيه من مقلب. لم يكن يعرف أنه سيمضى الطريق محاولا أن «يترجم» ما نتبادله من حديث، أستاذنا الروائى الكبير وأنا. بالطبع كنا نتكلم العربية بل المصرية، لكن المشكلة كانت أننا، نجيب محفوظ وأنا، ضعيفا السمع إلى درجة أنه لئن سألنى الكاتب الكبير عن أحوال باريس، أجيبه أننى لم أقرأه بعد، وإن سألته عن الحياة بعد نوبل، يجيبنى أنه لم يوافق على اقتباس فلان لتلك من الرواية من رواياته بعد.
كان حديث السينما قد بدأ بيننا يومها وكنا بعد حول طاولة العشاء، إذ فى تلك الأيام كان المكسيكيون قد أوصلوا إلى محفوظ نسخا عديدة من فيلمين حققوهما وأبدى أستاذنا إعجابا بهما لا يخلو من «تحفظات على مبالغتهم فى إدخال مشاهد جنسية!» بحسب ما ردد مرات خلال السهرة. والمهم أن هذا الحديث تواصل فى السيارة ما دفع توفيق صالح إلى إطالة الطريق، هو الذى يمتعه عادة أى حديث سينمائى. لكن قراره هذا كان قبل أن «يندم» كما خيل إلىّ للمهمة الترجمانية التى اضطر للقيام بها. والتى أوصلته ذات لحظة إلى أن يوقف سيارته إلى جانب الطريق وينزل منها صارخا: «زهقتونى انتو الاتنين... كملوا مع بعض وقولوا اللى انتم عاوزينه». والحقيقة أن ما أغضبه لم تكن مسألة الترجمة وحدها، بل إحساسه أن ثمة فى الأمر «مؤامرة ما» تحاك ضده. ومن يعرفون توفيق صالح كانوا يعرفون أنه خلال تلك السنوات الأخيرة من حياته كان يعتبر كل حديث معه عن مشروع سينمائى «مؤامرة لعينة» تحاك ضده. صحيح أن هذه حكاية لا شك سأعود إليها فى مقال لاحق خاص بتوفيق صالح، ولكن قد لا يكون ثمة مفر من الإشارة منذ الآن أن أكثر ما كان يفرح صاحب «يوميات نائب فى الأرياف» و«زقاق السيد البلطى»، هو أن يهتف إلى زوجته السيدة روضة بعدما نكون اتفقنا معه على سهرة بعد لقاء ليقول لها بلهجته ولثغته الإسكندريتين اللطيفتين «غوضة... أنا لقيت سهغة النهاغده!» ما يذكرنا هنا بذلك الكسل الأسطورى الذى كنا نأخذه عليه.
أما هنا فى تلك الجولة القاهرية المسائية ولأن حديث السينما بدأ على العشاء، وجدت نفسى فى السيارة أسأل الأستاذ نجيب قائلا: «لقد مضت عقود على تحقيق حسن الإمام لأجزاء الثلاثية ذلك التحقيق الذى لم يرض عنه أى منا رغم طرافته «الإمامية» الخاصة، فلماذا لا نجد ثمة مشروعا لاقتباسها فى ثلاثية سينمائية جديدة مستفيدين من تجديدات اللغة السينمائية والتقنيات الحديثة ومن السمعة الكبيرة التى باتت للثلاثية بفضل نوبل، فى العالم أجمع، وها هى روايتا «بداية ونهاية» و«زقاق المدق» فى أفلمتهما المكسيكية شاهدتان على ما أقول؟». كعادته صمت محفوظ ثوان ثم قال بكل هدوء وكأنه ينهى الموضوع: «حسنا لا بد من تحقيق أمر كهذا بشرط أن يتولى توفيق (صالح طبعا) الكتابة والإخراج…» وصمت محفوظ وكأنه يقول شيئا فى منتهى العادية. ولكن توفيق صالح وكعادته التى أعرفها جيدا، غمغم بشىء من الغضب: «هو انتم عاملين علىّ مؤامرة ولا إيه؟» فضحك محفوظ ضحكته الشهيرة العريضة وقال لى بصوت مرتفع خشية ألا يترجم لى توفيق ما يقول: «شفت؟ هو ده السبب. أنا فى رأيى أن ما من أحد يمكنه اليوم أن يعود إلى الثلاثية مثل هذا الرجل لكنه لا يريد. بل يفضل أن يحقق أفلامًا لإخواننا البعثيين». والحقيقة أن هذه العبارة الأخيرة وقعت كالقنبلة وسط الحديث. وبدت وكأن نجيب محفوظ كان يتحين قولها منذ زمن بعيد. ولكن دون أن يدرك كم أنها جارحة بالنسبة إلى السينمائى الكبير الذى لئن كان راضيا كل الرضا عن الفيلم الذى حققه فى سوريا تحت الحكم البعثى وهو «المخدوعون» عن قصة لغسان كنفانى والذى صور بسوريا وكان، حتى ذلك الحين على الأقل، يعتبر من أفضل ما حقق عن فلسطين وقضيتها، فإنه كان نادما لتحقيقه فيلما «بعثيا» آخر ولكن فى العراق هذه المرة عن رواية «الأيام الطويلة» للشاعر عبد الأمير معلة ولم تكن سوى سيرة «بطولية مفبركة من أولها إلى آخرها» لصدام حسين.
الحقيقة أن توفيق صالح أمضى بقية الطريق وهو يحكى بأسلوبه الطريف وسخريته المرة من نفسه ومن الدكتاتور العراقى ومن الرواية ومن الفيلم، عما عاناه طوال التصوير الذى كان صدام حسين، وعلى ذمته، يريد أن يتدخل فى كل شاردة وواردة فيه وهو مؤمن بأنه سوف يكون «أعظم فيلم حقق فى تاريخ السينما». وكان إسهاب توفيق فى حديثه هذا ساخرا تشوبه المرارة ولا سيما حين قال كالحالم أنه ذات جلسة فى القصر الصدامى سأله الرئيس العراقى عن مشروع سيريد تحقيقه بعد «الأيام الطويلة» فقال له، والفكرة جاءته فى تلك اللحظة بالذات وهو يقصد أن تكون محملة بكل معانى التناقض والاحتقار، أن فيلمه المقبل سيكون عن ابن رشد. فصرخ به صدام غاضبا «إنما بود»: «أتريد أن تحقق معجزة فنية عبر فيلمين عن اثنين من عظماء التاريخ وراء بعضهما البعض؟ سيكون أمرا متعبا بالتأكيد». ولقد أقسم توفيق صالح أنه إزاء تلك العبارة التى قالها صدام وكأنها حقيقة مطلقة لا جدال فيها، «فهمت فى جزء من الثانية هول الجريمة الفنية التى أقدمت عليها. وبشاعة الفيلم الذى حققته وكأنى أريد أن أنهى به حياتى الفنية. ونظرت إلى عينى الدكتاتور القابع فى مواجهتى لأرى فيهما قدرا كبيرا من الكراهية واللؤم والتحدى، ذكرنى بالحكايات التى تروى عن رعب الدكتاتوريين فى مواجهة فنانين يريدون لهم أن يزولوا من هذا العالم بعدما خلدوهم فى أعمالهم…». وسكت توفيق صالح وقد تلألأت دموع فى عينيه فسرت لنا تماما ما كان يصر على قوله فى سنواته الأخيرة من أن «المخدوعون» كان فيلمه الأخير، فإن لفت محدثه نظره من أنه قد حقق «الأيام الطويلة» من بعده يسكت وتزوغ نظراته وكأنه يقول: «تبا لأوطاننا التى ترسلنا إلى ذلك النوع من المنافى». أما رفيق طريقنا كاتبنا الكبير فكان قد وصل إلى محاذاة المبنى الذى يضم منزله فسألنى وهو ينزل من السيارة: «انت شفت الفيلم يا إبراهيم؟» فرددت سلبا وقلت «أشوفه ليه؟» فابتسم توفيق وما إن أدار المحرك ليوصلنى التفت إلىّ بحب قائلا: «لهذا أحبك يا صديقى العزيز!».