كتب شاعرنا الكبير فؤاد حداد الجملة التالية: «كنت حالف تحت عين الله إنى آخُد حقى من موتى»، وهى جملة أثبتت الأيامُ صدقَها؛ فرغم أن صاحبها عاش ومات فنانًا فقيرًا على باب الله، فإن شعره منحه الحياة الأخرى التى قصدها شكسبير فى واحدة من سونيتاته القصيرة التى ترجمها بدر توفيق.
واجه شعر فؤاد حداد كلَّ أشكال التغييب والإقصاء، لكنه ظل قادرًا على جذب قرّاء جدد. ومن تابع الأمسية التى شهدها بيت الشعر الأسبوع الماضى يستطيع أن يعثر على أدلة كثيرة على استمرار حضور هذا الشاعر الذى أعدّه «وليًا» من أولياء الله الصالحين. ومن ثم، لم تكن الأمسية، التى وُضعت أمام جمهور الشاعر لآلئ جديدة، سوى «ليلة مفترجة» مفعمة بالمحبة ومختلف الكرامات.
ويمتد المعنى الذى قصده الشاعر ليشمل آخرين، منهم الفنان التشكيلى سعيد العدوى (1938-1973)، أحد أبرز فنانى الحفر والجرافيك فى النصف الثانى من القرن العشرين، كما يُعد من أبرز الأسماء فى جماعة التجريبيين، ومعه محمود عبدالله ومصطفى عبدالمعطى.
وقد وجد العدوى أخيرًا الإنصاف الذى يستحقه، مجسّدًا فى الكتاب الموسوعى الذى صدر عنه مؤخرًا بإشراف الدكتور حسام رشوان، الذى يبذل جهدًا علميًا فائقًا فى توثيق وحصر أعمال رموز الحركة التشكيلية المصرية. فقد قام، على مدى سنوات، بتوثيق أعمال الرائدين محمود سعيد وعبد الهادى الجزار فى كتابين تميزا ليس فقط بأناقة الطباعة، وإنما بالقيمة التاريخية والفنية للمحتوى العلمى؛ إذ يمثّل كل كتاب سفرًا جامعًا ورحلة اكتشاف تثير شهوة العين.
وعلى خلاف أعمال محمود سعيد والجزار التى نالت حظًا من الانتشار، تبدو أعمال العدوى مجهولةً لمن هم خارج الأوساط التشكيلية.
وقد تعرّفتُ شخصيًا على هذه الأعمال بفضل مقال كتبه الروائى السكندرى الراحل محمد جبريل قبل سنوات، تضمّن موجزًا عن حياة الفنان الذى أنظر إليه دائمًا باعتباره شخصية ذات ملامح درامية فريدة. وقد ترسّخ هذا الانطباع لدىّ بعد أن طالعت أعماله فى المعرض الاستعادى الذى أشرف الدكتور حسام رشوان على تنسيقه، واستضافه قصر عائشة فهمى العام الماضى بالتعاون مع قطاع الفنون التشكيلية.
أعاد المعرض، ومن بعده الكتاب، اكتشاف أعمال الفنان التى تعيد الاعتبار لصور الحياة اليومية وتفاصيلها التى تنطوى دائمًا على شيء من الفانتازيا الشعبية، تلك التى تمكن العدوى من صهرها فى نسيج متكامل أفاضت الدكتور أمل نصر فى تحليله خلال حفل اطلاق الكتاب وذكرت كيف شمل حلقات الذكر والعربات الشعبية والموالد والأضرحة. وظلّت لوحة «الجنازة»، التى رسمها بعد رحيل عبدالناصر، التجسيد الأهم لحالة الفقد والضياع التى استشعرتها أجيال كاملة بعد غياب صاحب الظل الأخضر.
عاش العدوى حياة قصيرة مكثفة شبع منها، وأنتج خلالها أعمالًا فنية حفلت بصور التجريب وإعادة الاعتبار للرموز والأشكال الشعبية. وقد نهب بعضُ من حوله عددًا من أعماله، لكنها لا تزال فى الطليعة بفضل الحساسية الجمالية التى تميزها. ومؤخرًا -كما أعلنت الفنانة والناقدة ريم حسن- دخلت واحدة من لوحاته قائمة مزاد كريستيز خلال نوفمبر الماضى، ما يعنى أنها صارت جزءًا من شبكة عالمية ضخمة لتداول وتسويق العمل الفنى بطريقة احترافية تمنحه حضورًا دوليًا وفرصة واقعية للوصول إلى جامعين ومؤسسات فنية من مختلف أنحاء العالم، بعيدًا عن الحدود المحلية. وهذا بالفعل ما استهدفه الدكتور حسام رشوان من خلال إصدار الكتاب الذى دعمته عدة مؤسسات فنية، من بينها: مؤسسة براجيل، ومؤسسة دالول، ومؤسسة المهندس المعمارى عبدالله بن جوهر.
تمثّل حياة العدوى مصدر إلهام كبير، كما تجسّد قصة إخلاص خطيبته وجيهة فاضل وحرصها على إرثه مصدر إلهام آخر. وأتصوّر أن التجربة كلها تستحق أن تظهر فى فيلم سينمائى أثق أنه لن يقل جاذبية عن الأفلام العالمية التى استلهمت سير كبار التشكيليين فى العالم.
والمؤكد أن هذه الفكرة -رغم واقعيتها- ستبقى حلمًا جميلًا، لكن بعض الأحلام تتحقق؛ فالكتاب الذى صاحبته على مدى أسبوع كامل يمثّل كنزًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وأهم من ذلك أن دراساته تغطى أكثر من حقبة زمنية، وتعطى مؤشرًا بيانيًا دالًا على الاهتمام النقدى بأعمال العدوى، لكنها تتحرر فى الوقت نفسه من سطوة حضوره، متجهة نحو اكتشاف ملامح العصر الذى أفرز جيلًا استشعر مرارة هزيمة 1967، رغم ما كان يحمله من آمال عريضة يمكن إدراكها عبر المقاطع التى تضمّنها الكتاب من مذكرات العدوى ويومياته المشبعة بالتأمل الفلسفى والشحنة العاطفية التى تصل إلى ما يمكن وصفه بـ«الفيض الشعرى». وقد ساعدت الطباعة فائقة الجودة -التى أشرف على تنفيذها الفنان أشرف رضا- على تعزيز الشعور بالعاطفة بفضل قدرتها على الاحتفاظ بـ«رائحة الماضى».
أكد محمد جبريل، أن الفنان تمنّى الموت فى أحد المكانين: المرسم أو البحر. وفى توالى الأمواج، تمنى أن يتحول إلى أشلاء فى أفواه المخلوقات التى لا يعرفها. حيث يتكاثف الضباب، ويعمق، ويَحجب الأصوات، ويمنع الرؤية. تتلاشى، كأنها لم تكن.