للمترو محطات أخرى - عاصم أبو حطب - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

للمترو محطات أخرى

نشر فى : الأحد 3 يونيو 2018 - 8:40 م | آخر تحديث : الأحد 3 يونيو 2018 - 8:40 م

أثار قرار رفع أسعار تذاكر المترو أخيرا موجة غضبٍ عارمة بين ركاب المرفق الحيوى الذى يرتاده يوميا نحو 3 ملايين مواطن، أغلبهم من محدودى الدخل من الطبقة الوسطى وما دونها. وكالمعتاد، مرت رحلة رفع أسعار تذاكر المترو بالمحطات نفسها التى مرت بها سابقاتها من زيادات الأسعار التى أقرتها الحكومة خلال الآونة الأخيرة. فغالبا ما تكون البداية خبرا مقتضبا تسربه دوائر إعلامية قريبة من الحكومة تهيئة للرأى العام للزيادة المرتقبة، يليه نفىٌ رسمىٌ لأى نوايا لدى الحكومة لرفع الأسعار. بعد ذلك، تبدأ دوامة قصيرة المدى من تأكيدات ونفى صحة الزيادات المتوقعة. وبعد هذه المرحلة التمهيدية، تصدر الحكومة بيانا رسميا لإعلان موعد بدء التطبيق الفعلى للزيادات الجديدة موضحة حتميتها وكيف أنها تصب فى المصلحة العامة للمواطنين. وأحيانا ــ كما فى حالة المترو ــ يستتبع تطبيق رفع الأسعار ردود أفعال غاضبة على استحياءٍ شديدٍ بين فئات المواطنين الذين تأثروا بها والتى لا تلبث أن تتلاشى فى غضون سويعات أو أيام قلائل، لنصل بعد ذلك للمحطة الأخيرة فى هذه الرحلة حيث يمتثل المواطنون للأمر الواقع وتعود الحياة لما كانت عليه وكأن شيئا لم يكن.
وفى ضوء متابعتى لردود الأفعال التى أعقبت زيادة أسعار تذاكر المترو، يمكننى تشبيه أغلب كتابات المتخصصين وتعليقات الناشطين حول مثل هذه القضايا «بالقطار القشاش» الذى يقف فى المحطات الفرعية ويمنحها قدرا كبيرا من الأهمية؛ حيث ركزت ردود الفعل بشكل كبير على نقد السيناريو الحكومى المشار إليه أعلاه فى تمرير زيادات أسعار السلع والخدمات، ثم نقد وتفنيد دوافع ومبررات الزيادة، لتنحرف بذلك بعيدا عن جذور الأزمة وتغفل محطاتٍ أخرى أكبر دورا وأكثر أهمية فى تحليل وفهم المشهد الاقتصادى العام فى مصر. وفى رأيى؛ فإن من غير المنطقى أن تنصرف نقاشات المحللين إلى مجرد ذلك وحسب؛ فسيناريو تمرير قرارات رفع الأسعار صرنا نحن كمواطنين ــ من ناحية ــ نعلمه تمام العلم، ولا تمل الحكومة ــ من ناحية أخرى ــ من تكراره بصورة تكاد تصل إلى حد التطابق التام مع كل زيادة فى الأسعار. كذلك، فالتبريرات التى ساقها بعض ممثلى الجهاز الحكومى خلال التعليق على زيادة سعر التذكرة، كمسألة مقارنة سعر تذكرة المترو فى مصر بأسعار التذاكر المناظرة فى السويد وألمانيا والنرويج، ما كان ينبغى أن تستنزف هذه المساحة من نقاشاتنا لا سيما وهى تفتقر لبديهيات منطق القياس والمقارنات. وبالتالى؛ فإنه حرى بنا أن نعيد قراءة المشهد الاقتصادى بعدسة مكبرةٍ بحيث نقف على تلك المحطات التى أوصلتنا لأزمة المترو وشبيهاتها فى الآونة الأخيرة، والتى قد تقودنا أيضا لمحطات أخرى مستقبلا لا يعلم أحدٌ على وجه اليقين مداها ولا منتهاها. ودعونى فى السطور القليلة أتوقف معكم عند محطتين فقط أحسبهما قد لعبتا دورا محوريا فى تشكيل ملامح المشهد العام الذى أفرز موجات رفع الأسعار التى شهدناها أخيرا وقد نشهد توابع جديدة لها فى الفترات القليلة القادمة.
***
بداية، ينبغى أن يكون واضحا أن أزمة المترو الأخيرة لا تعدو أن تكون مجرد عرضٍ ظاهرى لأزماتٍ أعمق مر بها الاقتصاد المصرى فى السنوات القليلة الأخيرة ولا يزال يعانى من تبعاتها، شأنها فى ذلك شأن زيادة أسعار الوقود والتخفيضات التى طرأت على منظومة دعم السلع والخدمات الأخرى. أما المحطة الرئيسية التى انطلقت منها الجذور الحقيقية لهذه الأعراض فترتبط فى الأساس بالمسار الذى انتهجه الاقتصاد المصرى وسلسلة الإصلاحات الاقتصادية التى بدأتها الحكومة منذ يونيو 2014. فهذه الإصلاحات الاقتصادية على الرغم من أن بعضها ــ لا سيما تلك المتعلقة بتحرير سعر الصرف ــ يكاد يكون محل اتفاق شريحة كبيرة من الاقتصاديين؛ فإن موطن النقد وموضع الجدل هو أسلوب وآليات تنفيذها. فمن ناحية، توسعت الحكومة خلال السنوات الأربع الأخيرة فى تنفيذ مشروعاتٍ قوميةٍ عملاقة بوتيرةٍ مكثفةٍ وصورةٍ متزامنةٍ، وتزاحمت هذه المشروعات لتشكل عبئا كبيرا على كاهل الموازنة العامة للدولة واستنزفت الكثير من موارد السيولة المتاحة. علاوة على ذلك، فقد افتقر عددٌ ليس بالقليل منها للدراسات المتأنية؛ فلم تعط العوائد الاقتصادية المنشودة. وحيث إن تمويل برنامج الإصلاح الاقتصادى الحكومى كان ولا يزال يعتمد بصورة رئيسية على القروض، فقد تضاعفت قيمة الدين العام الإجمالى 5 أضعاف خلال السنوات الخمس الأخيرة، وفقا لتصريح وزير المالية فى مايو 2018، حتى صار يمثل نحو 110% من الناتج المحلى الإجمالى. وفى أعقاب قرار التعويم، وجدت الحكومة نفسها مضطرة لزيادة المصروفات الجارية لمواجهة أزمة الدولار وما ارتبط بها من أزمات، وهى نفقاتٌ لا مردود منها، وبذلك استمر عجز الموازنة وتزايدت الحاجة للاقتراض. وعلى وجه الخصوص، فقد ارتفع معدل الدين الخارجى بصورة غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة، وكما تشير البيانات الحكومية فقد تخطى الدين الخارجى حاجز 80 مليار دولار فى نهاية الربع الأول من 2017 ــ 2018. وفى ظل التنامى المخيف فى حجم الديون وارتفاع تكلفة أعبائها، انتهى بنا المطاف إلى حلقة مفرغة للاقتراض؛ فبجانب اقتراضنا لاستكمال تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، فنحن نقترض أيضا لسداد ديون سابقة، فيرتفع عجز الموازنة، فنضطر للاقتراض من جديد، فتزيد قيمة القروض، وترتفع أعباء خدمة الدين من جديد؛ وهكذا صرنا فى حلقة غير منتهية من الاقتراض المستمر يصعب الإفلات منها. وفى ظل «مصيدة الديون» ــ كما يسميها باحثو اقتصاديات التنمية ــ التى وقعنا فيها وصارت حلقاتها تستحكم مع كل قرض جديد توقعه الحكومة، اعتمدت الحكومة سلسلة من الإجراءات الاقتصادية فى محاولة للإفلات من هذه المصيدة وبهدف تخفيف عجز الموازنة، ولكن تطبيق هذه الإجراءات يفتقر حتى الآن إلى معايير العدالة الاجتماعية فطال الطبقات الوسطى والفقيرة النصيب الأعظم من آثارها السالبة متمثلة فى التخفيضات المتكررة فى دعم السلع الأساسية ورفع أسعار المحروقات والمواد البترولية وإقرار ضريبة القيمة المضافة، وغيرها، وما رفعُ أسعار تذاكر المترو أخيرا كما قلنا إلا إحدى صور هذه الإجراءات.
***
وهناك محطة أخرى وثيقة الصلة بالمحطة السابقة، ولكنها ترتبط ــ على وجه الخصوص ــ بمفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولى. فلقد كان صندوق النقد الدولى أحد الدائنين ــ وهم كُثرُ ــ الذين اعتمدت عليهم الحكومة فى تمويل برنامجها الاقتصادى وتنفيذ إصلاحاتها الاقتصادية. وفى الحقيقة، فإن وصفات صندوق النقد الدولى للإصلاح الاقتصادى معلومةٌ تماما بحيث لا يجهلها قليلُ علمٍ بهذا الشأن، فالصندوق يرتكز على سياسات نيوليبرالية تقوم على تطبيق برامج إصلاح هيكلى وتكيف ذى طبيعة رأسمالية تعطى أولوية قصوى للنواحى الاقتصادية المتعلقة بالقروض التى يمنحها للدول النامية. وهذا لا يعنى مطلقا أن الصندوق لا يهتم بالمناحى الاجتماعية لبرامجه ــ كما هو شائع ــ وإنما نجده يطالب الحكومات بتطبيق برامج اجتماعية لدعم الفقراء ومساعدتهم على تحمل تأثير إجراءات الإصلاح الاقتصادى. ومقارنة بالبرامج الاقتصادية، فربما يمكن القول إن الصندوق لا يعطى القدر نفسه من الأولوية لمتابعة تنفيذ إجراءات معالجة الآثار الاجتماعية السالبة لبرامجه على شرائح المجتمع الضعيفة، ولعل الصندوق فى ذلك يحسن الظن بنوايا الحكومات تجاه مواطنيها باعتبار أن تحقيق العدالة والحمائية الاجتماعية مسئوليةٌ أصيلة للحكومات تجاه شعوبها. عموما، لسنا هنا بصدد تحليل سياسات صندوق النقد؛ وإنما الشاهد من القول هو أن تطبيق إجراءات الحماية الاجتماعية أو عدم تطبيقها يبقى دور ومسئولية الحكومات الوطنية وليس دور الصندوق. وفى ضوء ذلك، فإن أسلوب إدارة الحكومة لملف الإصلاحات الاقتصادية والطريقة التى تستجيب بها لتوصيات صندوق النقد، ثم تبريراتها للآثار السلبية لهذه الإصلاحات، لا سيما ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، تثير الكثير من الأسئلة حول تفاصيل مفاوضاتها مع الصندوق؛ وتدفع للتساؤل عن مدى دقة تقديرات الحكومة ــ إن وجدت من الأساس ــ لتداعيات إصلاحاتها الاقتصادية الجارية على الطبقات الفقيرة؛ وهى أمور تبعث على القلق العميق حول كفاءة إدارة الملفات الاقتصادية فى هذه الفترة شديد الحساسية التى نمر بها. ولتقريب الصورة، دعونا نتحدث بلغة المترو ــ موضوع هذا المقال ــ فالمعضلة هنا هى أن هناك «فرق سرعات» بين قطار الإصلاحات الاقتصادية وبين قطار الإصلاحات الاجتماعية المنوط بها امتصاص الآثار السلبية لبرنامج الإصلاح الاقتصادى وتوزيعها وفق معايير العدالة الاجتماعية بين شرائح المجتمع. وتخبرنا تجارب الأمس القريب كيف أن التفاوتات المطردة بين سرعة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية قد تحرف قطارات التنمية عن قضبانها نحو مسارات الفوضى الاجتماعية والاضطرابات السياسية. ولا تزال تجربة حكومة الدكتور أحمد نظيف خير شاهد على ذلك، حيث لم تشفع لها معدلات نمو اقتصادى سنوية بلغت 6% بين 2004 و2010، ولم تنفعها شهادات النجاح التى قدمها صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، عندما صاحب هذه الإنجازات الاقتصادية ارتفاعات رهيبة فى معدلات الفقر والتفاوتات الاجتماعية التى كانت تتسع يوما بعد يوم، فكان عاقبتها ما كان فى يناير 2011 من احتجاجات شعبية واسعة أسقطت النظام السياسى بأسره.
***
أخيرا، فالحكمة العربية تقول «الدَّينُ رِقٌ فليخترْ أحدُكم أين يضع رِقَّه»، وقد اختارت الحكومة مسارا اقتصاديا وعرا، كان الاقتراض والاستدانة أهم معالمه؛ ومن ثم فليس من المستغرب أن تكون الإجراءات التقشفية هى أحد ملامحه باعتبارها نصا أصيلا ثابتا فى تعاليم الاقتراض الخارجى، لا سيما فى قروض صندوق النقد الدولى الموجهة للدول النامية. وعلى الرغم من أن الأرجح عندى كما أشرت أعلاه أن الحكومة مقتنعةٌ بأن هذا المسار هو الطريق الأوحد الذى لا بديل عنه، فهى فى ذات الوقت تتردد فى تطبيق إجراءاتها التقشفية دفعة واحدة مخافة أن تؤدى ردود فعل المواطنين إلى تمردات اجتماعية واضطرابات سياسية تهدد استقرار السلطة. ولعل هذا يشرح لجوء الدولة إلى تطبيق هذه الإجراءات فى شكل جرعات متتالية وعلى مراحل تدريجية لامتصاص أى صدمات اجتماعية قد تنشأ عنها لحين الوصول إلى هدف التنفيذ الكامل. لذا؛ فكما كان لأزمة المترو الأخيرة محطات سابقة أوصلتنا إليها كما ناقشنا فى هذا المقال، فإن استمرارنا على مسار الإصلاح الاقتصادى ذاته يعنى أن أزمة المترو لن تكون الأخيرة وأننا لا محالة مقدمون على محطات أخرى من إجراءات خفض الدعم ورفع الأسعار. ويبقى السؤال الأهم: هل نحن حقا على الطريق الصحيح؟ وهل سينتهى بنا قطار الإصلاح الاقتصادى إلى محطات النمو الاقتصادى والتنمية؟ نترك الإجابة عن هذين السؤالين لمقالات قادمة.

عاصم أبو حطب أستاذ مساعد بقسم الاقتصاد بالجامعة السويدية للعلوم الزراعية
التعليقات