توترات تجارية دولية وتكتلات إفريقية.. هل حان وقت الاتجاه جنوبًا؟ - عاصم أبو حطب - بوابة الشروق
السبت 31 مايو 2025 2:51 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

توترات تجارية دولية وتكتلات إفريقية.. هل حان وقت الاتجاه جنوبًا؟

نشر فى : الأربعاء 28 مايو 2025 - 8:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 28 مايو 2025 - 8:20 م

بعد مرور أربعة أشهر على انطلاق الفترة الرئاسية الثانية لدونالد ترامب، يتضح لنا تدريجيًا أن شعار «لنجعل أمريكا عظيمة من جديد» لم يكن مجرد أداة انتخابية وشعار سياسى، بل يعكس استراتيجية طويلة الأمد تسعى لإعادة تشكيل منظومة العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية للولايات المتحدة، وتقليص الاعتماد الاقتصادى على الصين، وتعزيز القدرات التنافسية الأمريكية فى القطاعات الصناعية والتكنولوجية الحيوية. وقد تجسدت آليات هذه الاستراتيجية حتى الآن فى موجات متتالية من السياسات الجريئة والصادمة التى تُحمِّل الخارج فاتورة ترميم وإصلاح الداخل، لعل أبرزها هو العودة إلى السياسات التجارية الحمائية، التى كانت قد أُقصيت من النظام الاقتصادى العالمى منذ عقود. وعلى الرغم أن الرسوم الجمركية غير المسبوقة التى فرضتها الولايات المتحدة على شركائها التجاريين كانت بذريعة إعادة التوازن إلى ميزانها التجارى، خاصة مع الصين؛ إلا أن بعض المحللين يرون أن هذه الإجراءات تخفى فى طياتها مسعى لإنشاء «عقيدة ردع اقتصادى» جديدة، تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة السياسية الاقتصادية الأمريكية على النظام العالمى وإعادة ترتيب ورسم تحالفاتها ضمن أطر تخدم مصالحها، فى ظل بزوغ تحالفات إقليمية وصعود قوى اقتصادية منافسة تهدد عرشها الذى تعتليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
سرعان ما ظهر أن مخاوف واشنطن لم تكن فى غير محلها، إذ لم يقف الخصوم التجاريون مكتوفى الأيدى أمام هذه السياسات وردوا بإجراءات انتقامية وسياسات مضادة، مما زاد من حدة التوترات. وقد عبَّر الناطق باسم الخارجية الصينية مؤخرًا عن هذا التصعيد بقوله: «لا نرغب فى الحرب، لكننا لا نخشاها، وسنقاتل حتى النهاية»، مما يؤشر إلى استمرار الصراع لفترة طويلة مع فرص ضئيلة لانفراج قريب؛ وهو مما يأجج من مخاوف اضطراب سلاسل التوريد وزعزعة استقرار الأسواق المالية وتباطؤ الاقتصادى العالمى. وفى هذا السياق، تبرز تحولات جذرية تضع العالم أمام خيارين: إما استمرار الهيمنة الأمريكية عبر الضغوط السياسية وإعادة هندسة تحالفاتها الاقتصادية، أو بروز نظام عالمى تعددى تقوده قوى صاعدة. وفى كلا الحالتين، فإن خريطة الجغرافيا السياسية والعلاقات الاقتصادية ستشهد تغيرات كبرى ولن تعود كما كانت.
• • •
فى خضم هذه التحولات الجذرية، فإن المفارقة هنا أن الدول النامية، رغم أنها ليست طرفًا مباشرًا فى هذه الصراعات، تتحمل العبء الأكبر ــ كما ناقشنا بالتفصيل فى المقال السابق ــ وهى المتضرر الأكبر والخاسر الأعظم. فاعتمادها الكبير على الصين والولايات المتحدة يجعلها عرضة للتداعيات السلبية لأى تراجع فى التجارة بينهما. كما أن افتقارها إلى أدوات الحماية والمناورة الاقتصادية يجعلها أكثر هشاشة أمام تقلبات الأسواق وأشد عرضة لتبعات هذه الصراعات البنيوية على النظام العالمى. ولذلك، فقد بدأ الكثير من الدول النامية يعانى بالفعل تقلبات أسعار العملات وارتفاع تكلفة الواردات وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتراجع الاستثمارات الأجنبية مع إعادة توطين رأس المال العالمى، وارتفاع تكلفة التمويل الأجنبى وتفاقم أزمة الديون الخارجية. ولم تسلم مصر من هذه التداعيات، رغم أنها لم تكن مستهدفة بشكل مباشر بالرسوم الأمريكية؛ مما زاد الضغط على الاقتصاد المحلى الذى لا يزال يحاول التعافى من تأثيرات الأزمات الاقتصادية الدولية والمحلية التى عرض لها منذ ٢٠١٩.
وهنا، يبرز سؤال محورى: هل حان الوقت لمصر لتعيد توجيه سياستها التجارية نحو الجنوب، وتستثمر فى الفرص التى تتيحها التكتلات الاقتصادية الناشئة لدول القارة؟ فبعيدًا عن الصراعات الدولية والتقلبات الاقتصادية والقيود الجمركية، تسير دول إفريقيا بخطوات ثابتة نحو تكتل اقتصادى قارى، يسعى إلى تعزيز التعاون والاندماج الاقتصادى وتحقيق استقلالية اقتصادية عن مراكز القوى التقليدية، خاصة مع دخول اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) حيز التنفيذ فى يناير ٢٠٢١. وتعد هذه الاتفاقية، التى أطلقها الاتحاد الإفريقى فى إطار أجندة ٢٠٦٣، إطارًا استراتيجيًا متكاملًا لتحقيق النمو الاقتصادى الاستراتيجى وتوجيه التحول الاجتماعى والتنموى للقارة الإفريقية على مدى ٥٠ عامًا.
• • •
بالنظر إلى المزايا النسبية لمصر فى مجالات الزراعة والصناعات الغذائية والدوائية والبنية التحتية، فإن التوجه نحو إفريقيا ليس خيارًا فحسب، بل ضرورة استراتيجية لتفادى تأثيرات هذه التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، وللاستفادة من الإمكانيات الهائلة التى تتمتع بها القارة الإفريقية. فالاتفاقية تفتح أبواب سوق تضم أكثر من مليار مستهلك، بإجمالى ناتج محلى يتجاوز ٣ تريليونات دولار، وتتيح مزايا تفضيلية ضخمة من خلال إلغاء الرسوم الجمركية على حوالى ٩٠٪ من السلع المتبادلة بين الدول الأعضاء. وتشير تقديرات البنك الدولى إلى أن نجاح التطبيق الكامل للاتفاقية قد يرفع حجم التجارة البينية الإفريقية بنسبة ٨٠٪ بحلول عام ٢٠٣٥؛ وهو ما يتيح فرصًا لتسويق منتجات القطاع الخاص ومنتجات مشروعاتنا القومية كمشروعات جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة وغيرها من مشروعات التنمية الزراعية والاقتصادية بمنافسة أقل ولقاعدة سوقية أكبر. كما تمثل الفرص الاستثمارية فى البنية التحتية لدول القارة، التى تعانى فجوة تمويلية تقدر بـ ١٧٠ مليار دولار، مجالًا واعدًا لمصر. فبامتلاكها بنية تحتية متطورة، مثل قناة السويس والمناطق الصناعية، وشركات هندسية وإنشائية ذات خبرات عالمية، يمكنها أن تصبح مركزًا لوجستيًا ومستثمرًا رئيسيًا فى مجالات البنية التحتية للقارة. وفى هذا الصدد، فإن مصر أحوج من الإمارات وتركيا، اللتين عزَّزتا نفوذهما فى إفريقيا عبر استثمارات ضخمة فى الموانئ والبنية الأساسية، وصار لهما دورًا اقتصاديًا مؤثرًا فى إفريقيا بفضل دبلوماسية السياسية واستراتيجيتهما التجارية. علاوةً على ذلك، فتعزيز التكامل مع دول القارة يُعد عاملًا مهمًا فى تقوية موقف مصر التفاوضى سواء فى ملفاتها القومية كمياه النيل أو فى النظام الدولى الجديد قيد التشكل، ويُعزز من قدراتها الذاتية على مقاومة الصدمات الخارجية.
لا شك أن هناك عوائق ومعوقات كبيرة تواجه التبادل التجارى الإفريقى، مثل ضعف البنية التحتية والتحديات المتعلقة بالاستقرار السياسى، وغيرها مما لسنا هنا بصدد سرده؛ لكن المكاسب المحتملة تفوق المخاطر. وخلاصة القول إنه فى ظل التحولات المتسارعة فى المشهد الاقتصادى العالمى وحالة عدم اليقين التى تحيط بالأسواق والتحالفات التقليدية؛ تقف مصر أمام لحظة فارقة تستدعى إعادة توجيه بوصلتها الاقتصادية نحو إفريقيا ليس كخيار تكتيكى مؤقت، بل كضرورة استراتيجية تتماشى مع المصالح الوطنية طويلة الأجل. إن التوجه نحو إفريقيا هو رهان على مستقبل أكثر استقرارًا ونموًا، وعلى دور إقليمى أكثر فاعلية لمصر فى عالم متعدد الأقطاب؛ فهل نحن مستعدون؟

عاصم أبو حطب أستاذ اقتصاديات التنمية
التعليقات