تعطى التجربة التاريخية للمسلمين معطيات مختلفة عن غيرها من التجارب الأخرى، المنطلق الأساسى فى هذه التجربة هو وجود سلطة للمجتمع تمارس بالتوازى مع سلطة الدولة، هذه السلطة تبلورت مع الزمن لتشكل لها ملامح واضحة نستطيع أن نقرأ طبيعة هذه السلطة من مدى سيطرة الدولة والمجتمع على شوارع المدن ومدى مسئولية كل طرف إزاء هذا المرفق العام.
فالشوارع فى المدن الإسلامية تنقسم إلى ثلاثة مستويات هى:
• الشارع العام: ويطلق عليه أوضح امثلته القصبة العظمى أو المحجة، هذا الشارع على جانبيه مبانى لكل مبنى فناء أمامه مساحة تخضع له وتعد من حقوقه، إلا أن المسافة بين أفنية المبانى على جانبى الطريق مرفق عام للمسلمين جميع حقوق الارتفاق بها أى استخدامها بأى وجه دون الإضرار بالغير، ومسئولية هذه المسافة تقع على عاتق الدولة، عدا أفنية المبانى، من هنا فالسلطة العظمى هنا للدولة وسلطة مالكى المبانى على جانبى الطريق أقل.
• الشارع العام الخاص: يتفرع من الشارع الرئيسى واستخدام القاطنين والمارة له أقل من السابق، والسيطرة عليه مناصفة بين الدولة ومالكى عقاراته، والمسئولية عن صيانته تقع بالمناصفة على الطرفين.
• الشارع الخاص: أكثر خصوصية ويستحوذ عليه قاطنو العقارات الواقعة على جانبيه ولا سلطة للدولة عليه، وباب الحارة علامة عليه، إذ عند باب الحارة تقف سلطة الدولة، وتتعاظم سلطة المجتمع القاطن بالحارة، ليختار شيخ الحارة ليدير شأن الحارة نيابة عن القاطنين به، وعندما تولى محمد على باشا حكم مصر، أراد أن يخضع الحارات وسكانها لسلطة الدولة فأسس أقساما ثابتة للشرطة فى أحياء مصر أقدمها الجمالية والسيدة زينب، وجعل لشيوخ الحارات مرتبات من أقسام الشرطة ليتحولوا إلى جواسيس على المجتمع لصالح الدولة.
لذا فإن للمجتمع سلطة توازى سلطة الدولة، لذا فإننا لا نستغرب فى حالة كمصر عندما سقطت دولة المماليك وأتت الدولة العثمانية لم يكن المجتمع متضررا بصورة كبيرة فى حياتنا اليومية، إذ إن العديد من السلطات كانت بيد المجتمع، مثل إدارة شئون الطوائف الحرفية الصناعية والتجارية والخدمية، عبر نظام الطوائف الذى كان يختار شيخ الطائفة من بين أمهر أعضاء الطائفة وأعلمهم بأسرارها.
كما كان المجتمع يقوم بمهام شئونه الدينية أى إقامة الشعائر الدينية فى المساجد حيث كانت الأوقاف تؤَمن مرتبات القائمين عليها من رجال دين وخدم فضلا عن إقامة وصيانة المساجد، كما أن مؤسسات التعليم كانت تؤمن إنشاءها واستمراريتها، فضلا عن توفير متطلبات المعلمين والمتعلمين.
لكن أهم من ذلك هو الرعاية الصحية، التى كان يقوم بها المجتمع عبر مؤسسة الوقف التى تنشئ المستشفيات وتضمن عملها ورعاية المرضى بها مجانًا حتى صار لدينا مستشفيات توفر هذه الخدمات كمستشفى مدينة رشيد التى أشارت لها سجلات محكمة رشيد فى العصر العثماني، والمستشفى القلاوونى بالقاهرة الذى ما زالت بقايا منه قائمة، وقدم العديد من الخدمات، فقد كان ناظر الوقف يصرف للمرضى طعاما كل يوم وأدوية، وحينما يغادر المريض كان يرسل إلى منزله ما يتناسب مع مرضه من طعام، ويصرف له زيت لإيقاد مصباحه ومراوح خوص لاستعمالها فى الحر، وغطاء لاستعماله فى البرد، وإذا كان من المعدمين مصروف منزله حتى لا يضطر للعمل لحين شفائه، بل وفر الوقت للمرضى الذين يحتاجون لعلاج نفسى موسيقيين وحكاويتية للترفيه عنهم.
هذا المستشفى البكر اكتشف فيه ابن النفيس الدورة الدموية، واكتشف به علاج نهائى للعجز الجنسى عند الرجال، فأقدم على مصر من كل حدب وصوب رجال للعلاج فيه، وكان كلية لتعليم الطب والصيدلة فتخرج فيها آلاف الأطباء، كل هذا من ريع الوقف الذى وفره المجتمع، وكلما أدت المؤسسة أدوارا متزايدة زاد الواقفون عليها أوقافا على أوقافها.
●●●
لكن الأهم هو الدور الاجتماعى للوقف، وهو الأهم على الإطلاق، إذ كانت دور العميان تأوى العميان وتوفر لهم الرعاية، ودور الشيوخ تأوى كبار السن وترعاهم ودور لرعاية الأرامل المطلقات توفر لهن الحياة الكريمة والرعاية، خاصة للمغتربات منهن، ودور العرائس التى تعرس الفتيات عند زواجهن فتوفر لهن فستان الزفاف وتستضيفهن لأسبوعين مع العريس فتحتفى بهن خلال فترة الإقامة بعد الزفاف وعند مغادرة العروسين يزودان بالجهاز المناسب وقليل من المال.
وأما المطابخ العامة، فقد كانت تحصر فقراء المدينة وتوفر لهم الطعام كل يوم وتزداد وتتنوع كمياته فى رمضان والأعياد، وكانت مؤسسة الوقف معنية حتى بتغسيل ودفن الموتى.
●●●
لذا فإن تأخير عودة الوقف فى مصر وتقنين أوضاعه طبقًا لأحكام الدستور الجديد، هو هروب من تعظيم دور المجتمع المدنى لحل مشكلات المجتمع والمساهمة فى بناء اقتصاد الدولة، بل إن عدم رد الدولة أوقاف دار الكتب المصرية، هو مصادرة لدور هذه المؤسسة ووضعها تحت ضغط موازنة الدولة تعطيها أو لا تعطيها، بل إن تلاعب البعض بوقف الجمعية الجغرافية المصرية هو حرب فساد الأوقاف ضد العلم ومكانته ودوره فى دعم وتعظيم مصر؟!
مشرف على ذاكرة مصر المعاصرة