الصراع بين الخيال والمصالح - قضايا إعلامية - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 7:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصراع بين الخيال والمصالح

نشر فى : الإثنين 3 نوفمبر 2014 - 8:15 ص | آخر تحديث : الإثنين 3 نوفمبر 2014 - 8:15 ص

نشرت مجلة نيو يوركر مقالا للكاتب آدم جوبنيك يتحدث فيه عن تأثير الصور التى تنتشر عبر الاعلام على مشاعر وافكار وافعال من يشاهدها. وبدأ الكاتب مقاله بالإشارة إلى حادثة انهيار البرجين فى الولايات المتحدة الامريكية. ووضح انه فى يوم 9/11 المشهود، قال واحد من أحكم الرجال الذين عرفهم فى حياته، إن الاختيار الذى يطرحه ذلك اليوم علينا سيكون بين التعامل مع الهجوم باعتباره صورة أو باعتباره إصابة. إذا سمحت للحدث بأن يصبح صورا، تتحرك دائما فى عقلك (الطائرات تنفجر، الناس يقفزون)، فلن تستطيع تجاوزه. أما إذا واجهت ذلك باعتباره اصابة مروعة، ولكن ذات أبعاد وأهمية محددة، وفظائع إجرامية بدلا من أن توحى بنهاية العالم، كان لديك فرصة للمضى قدما. وكان الرجل الحكيم نفسه مريضا بالسرطان، لذلك أتاح له هذا التمييز طوق نجاة من التعقل: إذا رأيت صورة الأشعة الخاصة بحالتك باعتبارها حكما بالإعدام، سوف تتوقف حياتك قبل أن تنتهى، وإذا فكرت فى أنها مجرد صورة لحالة معينة، ستواصل حياتك.

ويتساءل الكاتب ما الذى حدث لعادة التقييم العملى ورفض الذعر عند الأمريكيين؟ لم يعثر لها على أثر، ولا تزال فى عداد المفقودين! ففى الحكم على التصوير مقابل الإصابة، فازت الصور باستمرار، فقد ضاعت تفاصيل الإصابة فى فيضانات من الهستيريا. وإذا كان هناك ما يمكن أن يسمى أسوأ حادث أخلاقى وقع خلال العقد ونصف العقد الماضيين، فهو بالتأكيد: أن الأمريكيين الذين كانوا آخر الشعوب التى تصاب بالذعر تحولوا إلى واحد من أسهل الشعوب إصابة بالذعر على هذا الكوكب. ففى نيو هامبشير، أدى الذعر بأمهات نيو هامبشير اللاتى كان الإرهاب الإسلامى يبدو بالنسبة إليهن أقل خطرا من التعرض للبرق فى النزهات، ناهيك عن التعرض لسائقين فى حالة سكر وانتشار حمل السلاح إلى التصويت لـصالح «الأمن» الجمهورى. حتى سكان نيويورك، الذين لديهم أسباب مشروعة للخوف على الرغم من أنهم تعلموا من التجربة أنه لا يمكن استمرار العيش وسط المخاوف دفعتهم وسائل إعلام «مردوخ»، بين عوامل أخرى، إلى أن يبالغوا فى الخوف على نحو أكبر بكثير من أى تقييم واقعى للخطر.

فما هو الدافع لهذا الهلع؟ مرة أخرى، انها الصور، أو «الصور المشئومة» كما أطلق عليها بوس تويد. فقد أثارت شرائط الفيديو غضب وذعر العالم: الرهائن الأمريكيون والبريطانيون وهم راكعون على ركبهم فى صحراء شاسعة، على وشك أن تقطع رءوسهم فيما يسمى خطأ بالإعدام. وهذا بالضبط هو الإرهاب. ولكن هذه الصور حطمت بطريقة أو بأخرى مساحات إرهابية جديدة. فبدونها، كان من الصعب أن نقصف الآن العراق وسوريا، فى محاولة للقضاء على داعش.

فقد خرجنا مرة واحدة من التصور غير المتمايز للرعب، لنتعرض بعمق إلى صور معينة، لأناس مثلنا أحياء، وعاجزون فى مواجهة الموت. وتبدو العناصر الثلاثة: «مثلنا»، و«أحياء»، و«عاجزون»، ضرورية لإثارة الرعب من خلال الصور.

وقد أصبح هؤلاء الإرهابيون مهرة فى التلاعب بالخيال الغربى. وهناك تفسير سهل لذلك، بأنهم هم أنفسهم غربيون من نواح كثيرة. فقد تلقى زعماء هجمات 9/11 قدرا من تعليمهم فى الغرب، حيث أقاموا فى هامبورج فى التسعينيات، وحصلوا على تدريباتهم الرهيبة فى ولاية فلوريدا. وغالبا ما يتحول أبناء المهاجرين إلى الغرب نحو الأصولية، بسبب ما يظنونه إهانات توجه لمعتقداتهم، والشعور بالأسى من عدم اليقين فى مجتمع مفتوح؛ ليس من أجل الأصولية لذاتها، ولكن كسلاح ضد الآخرين الذى يربكونهم ويثيرون غضبهم.

•••

وعرض الكاتب ما قيل له من قبل المؤرخ برينستون جارى باس، مؤلف الدراسة الرائعة «معركة الحرية»، عن تاريخ التدخل الإنسانى: «الصور تحرك تسييس الإعلام عن الفظائع فى الخارج». وأشار إلى أن هذا يبدو أنه حدث فى أوائل العشرينيات من القرن التاسع عشر، عندما اكتسبت لوحة أوجين ديلاكروا «اليونان على أنقاض ميسولونجى» و«مجزرة خيوس»، الطابع العالمى بسرعة، بسبب الفظائع العثمانية ضد اليونانيين. وتظهر اللوحة الأخيرة امرأة يونانية يغتصبها تركى يرتدى عمامة. وفى 1876، أثار وليام جلادستون إيوارت، مشاعر الغضب ضد ويلات قمع العثمانيين الوحشى للبلغاريين. وبعد أربع سنوات، ساعد السخط المتزايد على إسقاط حكومة دزرائيلى. هناك مرة أخرى، لعبت الصور دورا أساسيا: امتلأت المجلات السياسية الأخرى برسومات لأكوام من الجثث، بينما كان السياسيون البريطانيون إما يتجاهلون الأمر أو يتعاملون معه برعب. وميز جلادستون بين إسلام السلميين والمتاجرين بالإسلام، على الرغم من أنه كان يقال إن الأتراك فى هذه الحالة يجسدون الإسلام الشرير، خلافا للعرب الأكثر نبلا. «لا يتعلق الأمر بمجرد الديانة المحمدية، ولكن بمحمدية ذات سمات غريبة. فلا يشبه الأتراك المحمدين المعتدلين فى الهند، ولا شهامة صلاح الدين فى سوريا، ولا المغاربة المثقفين فى اسبانيا. فقد كانوا، منذ اليوم الأسود الذى دخلوا فيه أوروبا لأول مرة، اكبر عينة انسانية معادية للبشرية».

ولكن هناك فروق تظهر بين زمن وآخر. ففى العصر الفيكتورى، كانت الصور تظهر على غرار رؤاهم. اما نحن نخلق رؤانا على شكل صورنا. فعندما روعتنا فيديوهات الإعدام، رتبنا خططنا بحيث نتفادى الاضطرار إلى مشاهدة واحد آخر. وتكمن جذور سياساتنا فى غضب الصالحين. فمن منا لا يريد الانتقام من هؤلاء الناس البشعين؟ كما أن ميولنا الخيرة تظل رهنا لتصورات لا نستطيع الهروب منها ولكن لا نستطيع أن نحولها إلى خطة عملية. وردا على الفظائع التى ارتكبها الأتراك فى بلغارى، شنت روسيا الحرب على تركيا، مما أدى إلى مذابح مروعة ضد الأتراك من قبل الروس وحلفائهم، وبلغت ذروتها فى المذابح العنيفة خاصة ضد اليهود، الذين كان الأتراك يقومون بحمايتهم تاريخيا. وأدى هذا الذعر الجديد إلى عقد مؤتمر برلين الذى قسم بلغاريا، وخلق دولة روميليا الشرقية التى لم تستمر طويلا (ونسيها الجميع الآن ماعدا هواة جمع الطوابع). وكانت أحد الصمامات المتشابكة فى البلقان التى أضاءت الطريق إلى الحرب العالمية.

•••

فى نهاية المقال يؤكد الكاتب انه لم تبدأ التدخلات الإنسانية من دون صور قوية وأسباب وجيهة. ولكن عندما نبذل كل ما بوسعنا لوقف الوحشية ضد البائسين، لا يعنى ذلك أن نسمح للبربرية أن تقودنا. وربما ينجح هذه المرة الانتقام الناجم عن الأثر البصرى فى العراق وسوريا، ولكن إذا حدث ذلك فإنه سيكون أمرا نادر الحدوث. حيث تميل الحروب التى أثارتها الصور للبدء بصورة واضحة. ولا شك أن النقص سمة لا مفر منها فى المشروعات البشرية، كما أن الصور فى نهاية الأمر دائما ما تكون واضحة ودامية. وهذه حقيقة ينبغى أن تظل حاضرة فى أذهاننا، حتى فى الوقت الذى لا تكون فيه أمام أنظارنا.

التعليقات