ساكن السبيل - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 2:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ساكن السبيل

نشر فى : السبت 3 ديسمبر 2022 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 3 ديسمبر 2022 - 8:50 م
شعره أبيض بلون الثلج، وبريق عينيه الخافت مزيج من الدهشة والشك. يطل على الدنيا من شباكه الخشبى، فالسبيل العتيق حيث يعيش من سنوات وسنوات له شباكان للتسبيل وأربع فتحات لخروج الماء للعطشانين تم سدها من فترة طويلة.
هو يسكن هذا المبنى الأثرى المكون من طابق واحد وغرفة واحدة، والذى يرجع تاريخه للقرن التاسع عشر، حتى صار مع الوقت شبحا ضمن أشباحه التى لم يسع يوما لطرد أحد منهم، فأمثاله ممن يقطنون أماكن تراثية ارتضوا بشكل أو بآخر نوعا من التعايش مع الماضى بكل شجونه وثقله. يعتبره البعض من العابثين بالتراث، لكن هذا الأخير بالنسبة له ليس مجرد موقع للزيارة وتأمل الجماليات الفنية بل للحياة والتأقلم مع كل ما مر به من أشخاص وذكريات. هو طاقته السحرية التى يدلف منها إلى عالم كان فى ظنه أكثر رحابة وهدوءا.
• • •
يراقب لافتات المحال القديمة ذابلة الألوان والخطوط، وينتظر قضاء الله ومرور بعض الكرام الذين يأتونه بنفحات من بركات الصوفية. لم يعد رغيف الخبز البلدى المحشو باللحم والأرز والفول النابت لذيذا كالسابق، بل فسد طعمه ككل شيء، حتى قماش خيام السرادقات التى تُنصب من حوله فى المناسبات جار عليه الزمن وبات من القماش المطبوع واختلفت منمنماته وموتيفاته.
يشمر عن ساعديه فيظهر وشم أخضر دقه تشبهًا بالزناتى خليفة، بطله المفضل فى حكايات السيرة الهلالية، «أفرس الفرسان» كما يقول عنه حين يسأله الناس عن سبب اختياره له، «يخلع الحربة من عين السبع».
الشارع ساكت وحزين. عربات نزح المياه الجوفية لم تعمل اليوم، ما زاد الطين بلة، لكن تواسيه رائحة شجرة التمر حنة التى تهف عليه، فقد كانوا يزرعونها لتعبق أجواء البيوت بعطرها، وما زال أثرها باقيا. يستمع لدور محمد عثمان «عشنا وشفنا سنين... ومين عاش يشوف العجب»، وهو بالفعل شاف ما شاف حتى وصل إلى سن السبعين.
• • •
لا يُعرف له زوجة ولا ولد، وليس له عمل ثابت، فقد كان دوما على باب الله. لذا حاول أن يقتفى أثر العائلة التى بنى أحد أفرادها هذا السبيل فى العام 1897، فمن فرط تعلقه بالمكان ظن أنه ربما ينتمى للأسرة الكريمة التى أرادت التوسع فى فعل الخير فبنت هذه «الجشمة» بتعطيش الجيم، وهو الاسم الذى يُطلق على هذا الطراز من الأسبلة العثمانية الجدارية التى كانت تُنشأ فى واجهة المنازل المطلة على الشوارع وبالقرب من المدارس والمقابر، وبها صنابير يمكن غلقها وفتحها للشرب، عبارة عن لوح من الحجر يحتوى على «بزبوز» أو «بزبوزين» أو أكثر من النحاس فى الواجهة الخارجية للسبيل، ويتصل هذا اللوح بحوض كبير يتم تزويده بالماء من خلال الصهريج الموجود فى حجرة التسبيل.
دَرَسَ تفاصيل صعود المياه وارتباطها قديما بسواقٍ منصوبة على الخليج المصرى الذى كان يخترق المدينة وقتها. مجهود ضخم لكسب الحسنات، صب فى مصلحته فى النهاية، فأحجار المكان الصلبة تحميه من غدر الزمان، بل جعلته أيضا يتلمس الأمل فى أن يكون جزءا أصيلا من الحكاية. راح يبحث عن جذور عائلته، فالعرق يمد إلى سابع جد كما يقولون، وفى دار المحفوظات يمكنهم الوصول للجد التاسع وتقديم شهادة معتمدة بختم النسر تغنى عن إعلام الوراثة.
أراد أن يستند إلى صلة قرابة ببناة السبيل، فلا يطرده أحد من أملاك عائلته، لكن دفعته أيضا علاقته الخاصة بهم التى نسجها من وحى الخيال.
• • •
لا يقارن أبدا بينه وبين السيدة التى وضعت ذات يوم لافتة أعلى البوابة لتدعى دون سند أنها قُرشية من العارفين بالله وأنها من أصحاب السبيل. يعرف جيدا هذا النوع من التمسح فى الدين والتاريخ، من الرغبة فى الاستحواذ على ممتلكات الغير ولو من باب الوجاهة واكتساب الهيبة، لكن هو وضعه مختلف، فحقوقه جاءت بحكم العشرة.
يحفظ عن ظهر قلب ما نُقِش على الحجر فى المدخل: «يا وارد الماء الزلال الصافى.. اشرب هنيئا صحة وعوافى». ويعلم جيدا تاريخ العائلة التى شيدت السبيل، وهى أسرة مسيحية منتشرة فى بلاد الشام (فى حمص وحوران ودمشق وطرابلس وبيروت...) تضم عددا من أعلام الفكر والأدب، توطن فرع منها فى مصر تحت الخلافة العثمانية.
ينشر غسيله بالقرب من الزخارف المستلهمة من عصرى الباروك والروكوكو، قرأ قليلا عن هذه الأساليب الفنية ليفهم أكثر طبيعة المكان الذى سمح له بحياة لم يكن ليصبو إليها من دونه، أعطاه ميزة عن غيره، فى حين كل شيء من حوله كان يسلبه حقوقه. ربما هذا هو سر الحب. السبيل جعله جار التاريخ، صار معروفا فى الحى كله بساكن «الجشمة»، لاذ بأحجارها مثل غيره من أبناء البلد الذين يرقدون على أمجاد غابرة، ولم يعد لديهم سواها.
التعليقات