منذ نحو مائتى عام كانت الصين والهند الاقتصادين الأهم عالميا، ثم غادرهما قطار الزمن لنحو قرنين، فانتقل مركز الجاذبية الاقتصادية نحو الغرب الذى انتقلت به الثورة الصناعية لرحاب التقدم. ثم ها هى الصين والهند تتداركان ما فاتهما بإصلاحات نهضت باقتصاديهما على مدى العقود الأربعة الأخيرة، لتحتلا المركزين الثانى والثالث عالميا، بعد الولايات المتحدة المستمسكة، حتى الآن، بالمركز الأول. فينتقل مركز الجاذبية الاقتصادية إلى الشرق مرة أخرى، ويدعم هذا الانتقال ما صار من تطور فى اقتصادات الجوار المتمثلة فى تجمع «آسيان»، وكوريا وبلدان أخرى ناهضة فى شرق العالم.
وما كان لمثل هذا التحول الدرامى ليجرى بيسر من الغرب إلى الشرق فتبادر الدول منحسرة القوة لتقديم التهانى والتبريكات للبلدان بازغة التأثير لمكاسبها المتوالية، وتنافسيتها فى مضامير التجارة والاستثمار والتحول الرقمى والاستدامة بالمعايير والنظم ذاتها التى طوَّرها الغرب فى مراحل صعوده. فلا تحسبن أن تواتر حديث الصراعات الجيوسياسية آتٍ من فراغ.
يتزامن مع هذا تراجع مطرد فى مكاسب الطبقة الوسطى وفرصها ومزاياها فى أوروبا الوجلة على منافع دولة الرفاه، وفى الولايات المتحدة المهمومة بتباعد فرص تحقق الحلم الأمريكى، الذى لطالما شغل ألباب قاطنيها بإمكانية تحقيق فرص الثراء.
ويشير تقرير عن التفاوت فى توزيع الدخل والثروة قُدم لمجموعة العشرين التى رأستها جنوب إفريقيا، أن 1 فى المائة من سكان العالم يستحوذون على 41 فى المائة من الثروة، بينما لا يتجاوز نصيب الخمسين فى المائة الأدنى دخلاً نسبة 1 فى المائة من الثروة. وفى مقال مشترك نشرته صحيفة «الفاينانشال تايمز» الشهر الماضي، دعا الرئيس البرازيلى لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، ورئيس الوزراء الإسبانى بيدرو سانشيز، ورئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا إلى توجيه نداء لتأسيس لجنة دولية لمواجهة عدم العدالة فى توزيع الدخل والثروة.
وفى هذه الأثناء تتزايد سيطرة حالة من الغموض سياسيا واللايقين اقتصاديا على التوجهات العالمية. وهى حالة لا يربح، أو بالأحرى لا يتربح، فيها إلا المغامرون والمقامرون والمجازفون وتجار الأزمات القائمة والمفتعلة. وهى الحالة ذاتها التى يكثر فيها الحديث عن تفاقم الفقاعات المالية تضخما بتخرصات عن احتمالات انفجارها محدثة أزمة محدودة على غرار ما حدث فى مطلع القرن لشركات تكنولوجيا المعلومات بما عرف بأزمة الدوت كوم، أو أزمة عميقة وواسعة كما حدث فى الأزمة المالية العالمية لسنة 2008. ومع الانشغال بفقاعات المال لا يمكن تجاهل الفقاعات الأخطر المتمثلة فى الظواهر المحيطة بالإجراءات الشعبوية التى يتبارى فى اتخاذها والترويج لها من أتت بهم أجواء الاحتقان والتطرف المتزايدة منذ الأزمة المالية العالمية.
فى ظل هذه التطورات، هناك ثلاثة توجهات محتملة: الأول تصور أن التغيرات المشهودة فى الساحة العالمية مؤقتة، وأن ما يتطلبه الأمر هو إصلاح ما هنا أو هناك فى المؤسسات والمنظمات الدولية، مع الأمل فى التئام أسباب التصدعات الجيوسياسية. وهذا يندرج فى باب مخاطر التعلق بحبال الآمال الواهية، التى لا تأتى بمكاسب سواء سلمت الحبال أو تقطعت. فإن هى سلمت فلا معنى لذلك إلا استمرار أوضاع لم يكن فيها لبلدان عالم الجنوب شأن يذكر إلا قليلاً، وإن هى انقطعت، من دون التحوط ضد انقطاعها، لتضررت البلدان التى اعتمدت على التعلق بها بلا بديل.
التوجه الثانى، هو نهج توطين التنمية بالاستثمار فى البشر، ولا أقول السكان. فالتعامل مع البشر باعتبار جزئى بأنهم ساكنو دولة ما؛ أسهم فى توجيه السياسات والقائمين عليها توجيها «مالثوسيًا» نسبة إلى توماس مالثوس الباحث البريطانى المشهور بنظرياته التى انتشرت فى القرن التاسع عشر عن التكاثر السكاني، وأن السكان يزيدون عدداً بمتوالية هندسية بينما يرتفع الإنتاج الزراعى بمتوالية عددية، بما سيؤدى إلى نقص فى الغذاء وعجز فى أماكن السكن. وقد أثبت الزمن خطأ نظرية مالثوس التى أغفلت، فيما أغفلت، أثر التكنولوجيا فى ارتفاع الإنتاجية وزيادة غلة الأرض، وكذلك إمكانية الانتقال والهجرة وآثارها فى عمارة الأرض، فضلاً عن تطور هندسة المدن والمبانى وتخطيط العمران. وهذا كله يساند الاستثمار فى البشر تعليماً ورعاية صحية، وتوفيراً للبنية الأساسية والتكنولوجية التى تسمح للبشر بالإبداع والابتكار والإنتاج والتطوير، على النحو الذى شهدته بلدان محدودة الموارد الطبيعية مثل كوريا وسنغافورة من تحديث وتطور جعلهما فى مقدمة تصنيفات البلدان.
التوجه الثالث، هو التنمية الإقليمية؛ إذ يمكن أن توجد الأقاليم الاقتصادية فى حدود الدولة الوطنية، إذا سمح عدد سكانها ومساحتها بأن تقسم إلى أقاليم تتخصص فى مجالات وفقا لمزاياها النسبية والتنافسية. ولكن المقصود هنا هو التعاون الإقليمى بين دول الجوار الجغرافى، أو فيما يتجاوز القرب الجغرافى الملاصق، بفعل تيسير سبل النقل والسفر، بما يحقق زيادة فى التجارة البينية، مع زيادة مخاطر الحروب التجارية، بخاصة من قِبل الولايات المتحدة. كما يزيد من فرص الاستثمار فى ضوء ما تفرضه بلدان متقدمة من قيود على الاستثمارات الأجنبية. كما يمنح مجالات لانتقال العمالة المنظمة مع زيادة الموجات المنفرة والطاردة للهجرة لأسباب سياسية وعنصرية، رغم المزايا الثابتة لأثر المهاجرين الإيجابى على الإنتاجية والتنافسية، بخاصة فى البلدان التى تميل فيها التركيبة السكانية نحو كبر المتوسط العمرى.
وتتجلى الفرص الإقليمية فى قارة إفريقيا التى يبلغ فيها الوسيط العمرى 19 عاما، فى حين يبلغ نحو 43 عاما فى أوروبا، وذلك فى قارة زاخرة بمكونات صناعات المستقبل.
نقلا عن الشرق الأوسط